كثيرةٌ هي الدول التي يفرض عليها دفع ثمن صراع دولتين أو أكثر، إذ تتخذ هاتان الدولتان أرض دولة ثالثة ساحةً لتصفية حساباتهما ولا مانع لديهما من أن يكون شعب الدولة الثالثة حطباً وقوداً لاستمرار إشعال ذلك الصراع.
نموذج حي وماثل أمامنا الآن لا يقبل الشك ولا يسمح للذين يدافعون عن الدول المستغلة لدول أخرى بدافع طائفي أو مصلحي ذاتي، فالذي يشهده العراق من صراع على أرضه بين إيران وبريطانيا لا يمكن إخفاؤه ولا يتيح للذين يدافعون عن إيران أن يضغطوا على استغلال الوضع الشاذ في العراق وتحويل جنوبه كترسٍ واقٍ لحماية إيران، ولا يعطي الفرصة أيضاً للذين يدافعون عن قوة الاحتلال البريطانية في العراق وفي جنوبه بالذات والتي تستغل وجودها بالقرب من المنطقة الأكثر حساسيةً في إيران (جنوبه الغربي) المتخم بآبار النفط، والمحتضن للعرب الذين يتوقون للخلاص من الحكم الإيراني كنظرائهم الأكراد في شمال العراق.
الإيرانيون أقاموا لهم وجود قوي وفعّال في جنوب العراق وبالذات في البصرة والعمارة حيث توجد قوات الاحتلال البريطاني.
ووصل التغلغل الإيراني إلى الحد الذي أصبح فيه التعامل بالروبل الإيراني شيئاً معتاداً، والتحدث باللغة الفارسية حتى في الدوائر الحكومية في محافظتي البصرة والعمارة ملاحظاً.
وإذ مرت السنتان والأشهر التسعة الماضية من الاحتلال البريطاني لجنوب العراق دون احتكاكات أو صدامات عسكرية، إذ مضت السنتان الماضيتان والبريطانيون مشغولون من أجل تعزيز وضعهم الأمني، في حين مضى الإيرانيون قدماً من أجل توطيد وجودهم من خلال نشر أنصارهم من الأحزاب الشيعية التي كانت قياداتها تقيم في إيران، وكان لمنظمة بدر اليد الطولى في تحقيق هذه الأهداف وساعد على ذلك انخراط اعضائها في مؤسسات وزارة الداخلية وأجهزة الشرطة.
وكان من الممكن أن يظل هذا الوضع على حاله، فالبريطانيون طالما يبقى الشيعة الذين يشكلون الأكثرية في الجنوب متعايشين مع الاحتلال ولا يتعرضون لقواته كما يفعل أقرانهم السنة في مواجهاتهم اليومية في أماكن متعددة من العراق، إلا أن فترة التعايش هذه أخذت بالتقلص ثم بالتبخر بعد أن اتجهت مصالح إيران وبريطانيا للتصدام سواء كان إقليمياً أو دولياً.
فإقليمياً أدى ظهور أعمال تخريبية وبوادر معارضة مسلحة في الأهواز حيث تقطن العشائر العربية واتهام إيران لبريطانيا بدعمها إلى ظهور مضايقات ثم مواجهات بين القوات البريطانية في البصرة وأنصار إيران من جماعات الأحزاب الشيعية التي تدرب معظم كوادرها في إيران، وهذا ما دفع القوات البريطانية إلى اعتماد إجراءات أكثر صرامةً بعضها يعد خروجاً عن المعتاد كما أظهر قبل أيام شريط تلفزيوني لجنود بريطانيين يضربون شباباً عراقيين في البصرة، مما دفع الإدارة المدنية العراقية إلى وقف تعاملها مع القوات البريطانية المحتلة.
المتوقع أن تزداد الاحتكاكات، حيث سيلجأ أنصار إيران إلى تكثيف مضايقاتهم للقوات البريطانية، فيما سيعمل البريطانيون إلى البحث عن وسائل للنيل من الإيرانيين سواء بإثارة القلاقل داخل إيران أو بالمشاركة بفعالية في عزل إيران دولياً، وفي كلتا الحالتين سيكون الرد الإيراني مزيداً من المواجهات ضد القوات البريطانية في البصرة والعمارة لتصفية حساباتهم مع بريطانيا على أرض العراق.
|