Thursday 2nd February,200612180العددالخميس 3 ,محرم 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"الرأي"

تغيير المسار تغيير المسار
د. سهام العيسى

قول أحد الحكماء: (إن الحياة مجموعة من المجاهل؛ فعلينا أن ننقب فيها حتى نصل إلى غايتنا).
قالت: لا تزال تلك الأيام المليئة بالإحباط والوجع تسكن في خلايا ذاكرتي ولكن اخضرار الحلم وعبور صهوات المستحيل أسدلا الستار على كثير من تلك اللحظات البائسة.
هي من أذكى طالباتي.. متميزة في كل شيء، في هدوئها، مثابرتها، حساسيتها، هي طالبة في مرحلة الدكتوراه، بدأت رحلة البحث العلمي منذ سنوات قريبة وكنت مشرفتها المساعدة في تخصص تحضيرات عضوية، ولكن فجأة أصيبت بحساسية شديدة من بعض المواد الكيميائية التي كنا نستخدمها في المعمل، وعانت في تلك المرحلة من صراع (داخلي) يشده قطبان؛ الأول هو أن تستمر في نفس المجال رغم تأثيره في صحتها، والثاني هو تغيير التخصص الفرعي.
وكان القرار أن يتم تغيير خطة البحث كلياً، قاومت في البداية، ورفضت وأعلنت هذا الرفض بأكثر من طريقة، وكنت أتابع تلك الظروف الضاغطة عليها، وأحلم بأن تجتاز هذه المرحلة وكانت الكثير من علامات الاستفهام ترتسم في عقلي: هل التعود على الأشياء وروتينها يصبح جزءاً من تكويننا النفسي بحيث نرفض التغيير، أم الخوف من احتضان المجهول والسير في أبعاد جديدة في الحياة احتمالا النجاح والفشل فيها يخضعان لعالم غريب لا نعرف قوانينه؟ وما العامل الرئيسي الذي يتحكم في رؤيتنا المستقبلية ويشدنا بخيوط وهمية لوضع احتمال الفشل فيه يتجاوز 90%؟
بعد أربع سنوات انتهت من دراستها في مجال جديد أقرب إلى الكيمياء الدوائية، مجال جديد، اكتسبت خلال تلك السنوات الكثير من الخبرات الحياتية والعلمية، وهي الآن مقتنعة تماماً باتجاهها الجديد. من معايشتي هذه التجربة بكل لحظات الفرح والأسى والخوف توصلت إلى أننا لكي ننجح خلال مرحلة تغيير المسار يجب أن نركز على عملية التعلم ومدى استفادتنا من هذه التجربة وليس الغوص في مجاهل الحالة النفسية التي نعيشها التي يحدها الخوف والأسى والقنوط والإحباط؛ أضلاع مربع تضغط على أرواحنا الهشة؛ لتحيل حياتنا إلى حالة من الجمود الفكري وعدم الرغبة في التغيير.
إن امتلاك المقدرة على تغيير المسار واختيار الأصلح هي نعمة ربانية؛ فالإنسان يملك حرية نسبية في التحكم في مصيره وحياته؛ فلماذا يتردد ويبقي نفسه في مدارات القلق والهم رغبة في الوصول إلى هدف غير واضحة معالمه أو تكون نسبة الفشل فيه عالية؟ إن الإنسان في دورة حياته الزمنية يتعلم الكثير ولكن القليل منا يستفيد من تلك المعلومات ويطبقها في حياته اليومية.
وما انسياب تيار الماء إلا مثال واضح على مرونة التغيير، فعندما يصدم تيار الماء وهو يجري بصخور صلدة أو تكوينات جغرافية صعبة فإنه يعمل على تغيير مساره بقوة ومرونة إلى مجرى جديد يسير فيه بكل قوة وعنفوان يتدفق منه نبض الحياة التي يعيشها ويحملها إلى عالمه الجديد.
إن تغيير المسار هو دافع للحياة للأمل؛ فالبعض منا يعيش في نفس الدائرة المغلقة خوفاً من التجديد، خوفاً من لغة مفرداتها النفسية والاجتماعية غريبة عليه، من أحاسيس العبور إلى بوابات المجهول.
الكثيرون منا يصرون على الاستمرار في السير على نفس الدروب المرسومة في خريطة حياتهم ويفشلون في الانفتاح على مسالك أخرى؛ ولذا يواجهون الفشل مرة تلو الأخرى ويقبضون على جمر الفشل، وفي كل مرة يبحثون لأنفسهم عن أعذار واهية يبررون بها استمرارهم وفشلهم.
كم منا استمر في تخصص لا يرغب فيه، عمل لا يحبه، علاقة مدمرة تدفعه إلى دهاليز النفس المظلمة يغيب فيها زمن البحث عن لحظة جميلة تحمل إشراقة الربيع والأمان؟
وعلى النقيض هناك أمثلة كثيرة لمبدعين استطاعوا أن يتجاوزوا هذه الأسوار ويكتشفوا موهبتهم في مجال تخصصهم الجديد، رغم رفضهم له في البداية وخاصة في مجال التخصص الجامعي، ومثابرين استطاعوا تغيير مجال أعمالهم ونجحوا في تجاوز عتبات الخوف من المجهول، ومتفائلين استطاعوا التحرر من علاقة محبطة لينتقلوا إلى آفاق أعلى وعالم أرحب من الود والأمان والسلام الداخلي.
إن أعظم استثمار في حياة الفرد هو أن يعيش حياته مرناً منساباً كتيار الماء. قد يقول قائل: هذا ضعف، ولكن الحقيقة أنها قوة من نوع آخر، فهناك فشل يتبعه نجاح، وفشل يتبعه فشل ثم نجاح، ولكن أن يستمر مسلسل الفشل فهذا جمود حياتي يتسلل إلى عمرك وأيامك؛ فهناك فرق بين أن ينساب الماء على صخرة صلدة لا يحدث أي أثر إلا بعد آلاف السنين أو أن يجري على صخور كلسية أو رملية صلدة يشق دربه فيها بعد زمن.
لا تجعل حياتك رهناً لضياع الفرص وللتعود والخوف من العوالم الجديدة، ولا تتوقع الفشل في المسار الآخر، فقط اتخذ قرارك؛ فنهر الحياة في داخلك سيتدفق مرناً، وستتكئ على أشرعة الأمل تجتاز فيها كل عوالم الخوف واليأس وتسافر معها إلى كل مرافئ المستحيل؛ لتمنحك لحظة ملامسة الفرح والنجاح.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved