معظمنا يعد رحلة الحج إحدى المحطات الإيمانية الرئيسة في رحلة العمر، وفيها تُجدَّد البيعة الربانية. ومنذ اللحظة الأولى لترديدنا (لبيك اللهم لبيك) وتبعاً للقانون الرباني فإننا نعلن عبوديتنا الحقيقية لله عز وجل، وتتنزل علينا رحمات الرب وتتهاوى ذنوبنا وتتعزز بداخلنا المشاعر السامية.
يتجمع الناس من كل أنحاء العالم سنوياً لأداء هذه الفريضة، وتعد السيطرة على هذه الأعداد التي تصل إلى أكثر من مليونين على تنوع أصولها وعروقها معجزة بالمقياس البشري، وكما يقول أحد الحجاج الغربيين: إن مشهد هذا العدد من الحجاج ومسيرتهم في منظومة واحدة جعلني عاجزاً ومذهولاً أمام القوة الحقيقية التي تجمع وتربط هؤلاء البشر. إن هذه التجربة هي من أمتع وأقوى التجارب التي عشتها في حياتي.
كانت آثار رحلة الحج في النفس البشرية دافعاً لإثارة مكامن الجمال لدى العديد من الأدباء والفنانين، وحفزتهم للتعبير فنياً عن هذه الرحلة. ولن أتوقف عند كتابات الأدباء العرب والمسلمين أصلاً؛ لأنني أعتقد أن تجذُّر الإحساس الإيماني يدفعهم بسهولة لصياغة مشاعرهم أدبياً أو فنياً، ولكن هناك العديد من المستشرقين الذين اعتنقوا الإسلام؛ أمثال ناصر الدين دينيه (إتيان دينيه) مؤلف كتاب (الحج إلى بيت الله الحرام)، وكتاب الرحالة الفرنسي المسلم جيل كورتلمون (رحلتي إلى مكة)، بالإضافة إلى العديد من اللوحات الفنية الرائعة التي تتناول تفاصيل رحلة الحج لدينيه، وهذه المؤلفات واللوحات هي من أهم المصادر الأدبية التي تبين أثر تلك الرحلة في نفوس مَن اعتنق الإسلام.
إن التأثير النفسي لرحلة الحج يتعمق في ثنايا الروح وتختلف درجته من شخص إلى آخر، ولكن معظمنا يعود من تلك الرحلة، وخصوصاً الفرض، وهو يشعر بالرغبة في تكرارها؛ لأن هناك الكثير من الأخطاء والتجاوزات، ولأننا حقيقةً لا نخطط لرحلة الحج التخطيط الصحيح، ولا يتم تهيئة النفس لاستشعار أهمية هذه الرحلة، فنفرح عندما نقرِّر ثم نبدأ في الإعداد لها (ملابس جديدة، وحقائب، وغيرها من مستلزمات). الكثير منا تتسلل إليه مشاعر الألم والندم بعد انتهاء هذه الرحلة، فنجد البعض، وخصوصاً أيام التشريق، يحرص على التنزه والجلوس في حلقات السواليف، بل إن إحدى معارفي تقول إنها قرأت رواية بوليسية في تلك الأيام, وكذلك نجد أن الأغلبية تستعجل عند أداء الشعائر كأنه واجب يجب التخلص منه، فلا سكينة ولا خشوع، المهم هو أن تنتهي، وخصوصاً عند الطواف وعند رمي الجمرات، ولا يزال محفوراً في ذاكرتي طواف الوداع عام 1996م؛ حيث كنا نطوف في الدور الأسفل، وقبل صلاة المغرب بربع ساعة فقط عند البدء في إقامة الصلاة، تحولت مسيرة البشر من الخط الدائري إلى مسارات مبعثرة وفقدنا إحساسنا في السيطرة على أنفسنا، فخطوط الطواف المنظمة كلها تبعثرت وتشتَّتت، لا تدري أي موجة من طوفان البشر تجرُّك إليها؛ لأنك في تلك اللحظة مسيَّر، وليس لديك قدرة على إحداث أي تغيير، المهم هو أن تحافظ على توازنك، ولا أنسى كلمات شخص لا أعرفه وهو يقول لي: لا تنظري إلى الأسفل، وحاولي السير مع الموجة. ونفَّذت ما قال، فإذا أنا ومن معي صعدنا إلى التوسعة الأولى، كيف؟! لا أعلم، ولا أزال ممتنَّة لذلك الشخص الذي استطاع أن يوجهني في وقت فقدت فيه القدرة على السيطرة على نفسي.
الحج هو الشعيرة الوحيدة التي ينصُّ ديننا على أنها فقط على المسلم القادر، ومع ذلك نجد أن الكثيرين يحجون وهم لا يملكون شيئاً، فنرى هؤلاء يفترشون الأرض في منى ويضيقون على الحجاج. أعرف أنه من الصعب أن تلزم المملكة أي حاج بضمان بنكي وبتأمين صحي واسم الحملة التي سينضم إليها (السكن) كما تفعل بعض الدول عند السفر إليها، ولكن شرط الاستطاعة هو الذي يتَّفق مع هذه الطلبات، وحيث إن أي إجراء هو تحت ميكروسكوب النقد من ضعاف النفوس فأعتقد أنه من الصعب تنفيذ هذه الشروط، وخصوصاً أن الحج بات يدخل ويؤثر في فوز الناخبين في بعض الدول المجاورة.
مأساة الجمرات على رغم حرص الدولة على تفاديها بمشاريعها الهندسية والتخطيط الميداني تظل إحدى أهم المشكلات التي تجبرنا على أن نعيد تفكيرنا ونتساءل: أين الخلل؟ وكيف يمكننا السيطرة عليه؟ أثق في حكومتنا كما تثق فيها كل الدول الإسلامية، فليس هناك دولة في العالم الإسلامي تقوم يما تقوم به وزارة الحج بكل كوادرها في الاستعداد لهذه الأيام الخمسة تساندها الداخلية والدفاع والصحة والمواصلات والبلديات وغيرها من مؤسسات الدولة، الكل يتكاتف لإنجاح هذا الموسم، ولكن في كل عام نُصدم بهذه المشكلة. هذا العام فقدنا 362 حاجاً تغمدهم الله بواسع رحمته. وحقيقةً، فإنه بمقياس الكوارث العالمية (بالنسبة لعدد الحجاج وتواجدهم في مكان واحد في زمن محدد) لا تعد كارثة، ولكن هذا الحدث من الصعب إخفاؤه أو التعليل له، وخصوصاً عن قناة تبحث عما يمس المملكة أو حاقد ينفث سمومه. وهكذا هي معادلة الحياة، لا بدَّ من وجود حاقد وحاسد يقلل من أهمية إنجازاتك ولا يرى إلا الجانب الآخر مهما كانت ضآلته.
الحج ثقافة وإحساس يثير مكامن النفس ويربطها بخالقها بروابط إيمانية، فإلى متى ننسى أن اجتماعنا هو تلبية لدعوة أبينا إبراهيم عليه السلام وليس مجرد رحلة نتباهى بأدائها.
وعي الحجاج وإحساسهم بأن الحج هو لتصفية الروح وتطهيرها، ومكانٌ الآخرةُ معروضةٌ للبيع فيه، هو أمر مهم لإتمام الحج دون حوادث تذكر، ولكن للأسف الناس يتهافتون لشراء الدنيا في هذا المكان، فهناك من يحج كل عام ويعلل بأنه واحد لن يضيق على الحجاج، وآخرون يتخلفون وهم لا يملكون الاستطاعة وجميعهم تسقط عنه هذه الشعيرة. ومن الأمور التي عجزت أن أستوعبها هو افتراش الرجال والنساء طرقات منى، بالإضافة إلى عدم الاهتمام بالنظافة، كأن حكومة المملكة هي المسؤول الوحيد عن نظافة المكان، وينسون أن أخلاقيات المسلم تتنافى مع كل تلك السلوكيات الخاطئة. هذه السلوكيات يجب أن يعيها ويطبقها الحاج منذ اللحظة التي يقرِّر فيها أداء هذه الفريضة.
|