لا أحسب أنّ مسؤولاً سيكسب تأييد منسوبي مؤسّسته دون أن يكون عادلاً في قراره أولاً، منبثقاً قراره عن قدرة اتخاذه عندما يكون في اتخاذه ما ينمُّ عن وعيه وتجرُّده وحرصه على مصلحة الجميع، بمعنى أن يتّخذ قراره في ضوء التجرّد والموضوعية والابتعاد عن التحيّز الذّاتي الذي له دوافعه وعوامله، فهي إن لم تكن هذه الدّوافع الميل الشَّخصي، ووجهة النَّظر الذَّاتية، فإنّها قد تكون الخشية من جانب آخر كي لا (يغضب أو يتأثّر أو يؤثّر) له علاقة بالقرار، إمّا سلباً وإما إيجاباً. لذلك فإنَّ اختيار صاحب القرار ليكون في سُدّة المسؤولية أمر مهمٌّ تسعى له القيادات النّاجحة في أطر المجتمعات البشرية. هناك حدٌّ في التّشريع الإسلامي بقطع الرَّأس سيفاً للقاتل وهو أعلى درجات الحدود، وهناك حدُّ العين بالعين والأنف بالأنف.. وهي الحدود المماثلة في أثرها تحريضاً للإحساس بالعدل والتَّساوي في المجتمع البشري الذي لا يتفاوت فيه الإنسان إلاّ بمرتبة التَّقوى، وهناك الحدّ بقطع اليد والقدم عند السرقة إمعاناً في الحفاظ على ممتلكات الإنسان من جهة، وكبح التعوّد على السّطو بالعضو الذي يقوم بالسّطو، سواء بالسّعي إليه والإمساك به ومن ثمّ حمله (اليد)، أو بالسّعي إليه والوصول إلى مكانه (القدم) إلى جانب هذه الحدود الماديَّة بجزء أو بكلّ جسد الإنسان، فإنّ هناك حدوداً معنوية، لو أدركها كلّ مسؤول لعلم يقيناً أنَّ قراره هو حدٌّ مماثلٌ لحدود التَّغرير والعقوبة والنَّتيجة في الحدود الشرعية. فهو إن قرّر ما يوجب وقوع ضرر على الأفراد عن رأيه الخاص أو عن هوى في نفوس بطانته، أو أقام العدل على رغم ما في هذه النفوس فإنّه يكون ظالماً في الأول عادلاً في الثاني، ولا يقف التّعرّف على مدى مصداقية قراره على رضائه وحده، أو رضاء من وقع عليهم، بل تتبدّى المصداقية في آثار هذا القرار، تلك الآثار التي توطّد العدل والحقّ لكل منسوب لعمله، وفي بيئة عمله، أو تنزع الأمان فيهم وتضيّع الحقوق... إنَّ الحديث الذي أرسله رسول الهدى محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - قاعدة لسلوك الأفراد، مؤكداً لهم فيه بأنّ كلّ واحد فيهم (راع ومسؤول عن رعيّته) بما في أولئك المرأة في بيت زوجها، والعامل في خدمة سيِّده، لهو المنطلق الذي يضعه أي مسؤول يخشى الله تعالى ويتَّقيه أمام عينيه ولا يتّخذ موقفاً ولا يُصدر قراراً ما لم يكن متمثِّلاً لهذا التَّوجيه خير تمثّل.. فإنْ كنت مسؤولاً، هل تسألُ نفسك عن أمانة قرارك وصدقه، ومدى العدل فيه والتَّحرّي؟. وهل تسأل نفسك أي أنواع العقوبات ستواجه إن كنتَ لم تواجه نفسك وأنت تتَّخذ قرارك؟... وهل تزنُ عدالتك بميزان الحقّ والتجرّد؟ وهل تزنُ صدق قرارك بميزان العدل والتَّحرّي؟ وهل تنظرُ لمنسوبيك نظرة التَّساوي والرِّعاية؟ إنَّ الجلوس على مقاعد القرار بقدر ما هي مُفرحة بقدر ما هي مُفزعة، لما فيها من سقطات الزَّلل في براثن الهوى، أو الخلوص منها إلى مشارف النَّجاة.
- يتبع - |