من الطبيعي أن يتابع أبناء مجلس التعاون مسيرة المجلس التي ستكمل أربعة وعشرين عاماً هذا اليوم الذي ينتهي فيه لقاء القمة في أبوظبي، الذي بدأ يوم الأحد 18 ديسمبر 2005، ومدينة أبوظبي تاريخية في حياة المجلس منها انطلق وفيها وثق القادة قيام المجلس، وفي حضنها التزم القادة بتبعات العمل الجماعي، مدركين ثمنه ومتفاعلين مع ثقل المسؤوليات. في ذلك اليوم منذ أربع وعشرين سنة، طلب مني المرحوم الشيخ زايد بن سلطان رئيس دولة الإمارات وأيضاً رئيس الدورة الأولى للمجلس، تلاوة البيان الختامي الذي تضمن الأسس التي يقوم عليها المجلس وقواعد العمل فيه والضوابط الذي تتحكم في مسيرته. كان الشيخ زايد -رحمه الله- يريد إبراز الترابط بين المجلس والعمل العربي المشترك، ويريد التركيز على البعد الإنساني لضمير المجلس، ويمكن القول بأن المجلس ظل وفياً لهذا التراث.. قيام المجلس هو قرار تاريخي نقل المنطقة من العمل الفردي ومن الاجتهاد وفق المصلحة الضيقة إلى ساحة العمل الجماعي وإلى لائحة المسؤولية الجماعية في التعامل مع المشاكل الموجودة آنذاك وأبرزها الحرب العراقية -الإيرانية، والتواجد السوفيتي في أفغانستان. والصراعات العربية- العربية بعد كامب ديفيد، والمفردات الأيدولوجية التي توجه إلى منطقة الخليج. في الحساب الختامي لعمل المجلس يمكن القول، وبضمير مرتاح، بأن أبرز إنجازات المجلس هي نجاحه في الحفاظ على منطقة الخليج بعيداً عن إفرازات الحروب في أفغانستان وإيران والعراق وفي منطقة الشرق الأوسط، وفي صد التوجهات العابثة بأمن الخليج، وفي الإسهام الكبير في نهاية هذه الحروب، وفي هزيمة النظام العراقي البعثي في غزوه للكويت، وفي تبديل الخريطة الفكرية الاستراتيجية العربية، وفي الإيمان بفضيلة الاعتدال، وتطويق الراديكالية الإيرانية والعربية، وإبراز مزايا التسامح والتعقل والانفتاح. كل ذلك السجل جاء من مجلس التعاون بتعاضد أعضائه، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المجلس يرتفع عندما تتفق الدول الأعضاء على وحدة المرئيات والتقاء المنظور وتبني الاستراتيجية الدبلوماسية الموحدة. وأن البطء والضعف والروتين عناصر تتسيد المجلس عند اختلاف المنظور، كما نرى الآن في التقييم المتباعد حول قضايا جوهرية أهمها الوضع في العراق، والبرنامج النووي الإيراني، والدفاع عن سلامة الدول الأعضاء، وسجل الأولويات. والتحفظات وقائمة المحرمات التي ترافق العمل الاقتصادي الخليجي.. ولهذا فإن اجتماع القمة في أبوظبي يأتي في فصل الاستراحة والهدوء في مسيرة المجلس. وأود إبداء بعض الملاحظات، حول الوضع الراهن: أولاً: قدمت الهيئة الاستشارية - بناء على إرادة القادة- تقريراً واسعاً تضمن التقييم الشامل لمسيرة المجلس خلال العقدين الماضيين، جاءت فيه مقترحات موضوعية في صلب العمل، ومقترحات إجرائية في ضوابط العمل، ومقترحات إدارية ومتابعة لتأمين نجاح العمل. ومقترحات بنيوية حول النظام الإداري والهيكلي لمجلس التعاون، ومقترحات لتصعيد فاعلية الأمانة العامة، وأتمنى أن تعطي الدول الأعضاء هذا التقرير حقه في الدراسة، مع اقتراح برنامج زمني معقول لتنفيذ ما جاء به من مرئيات صادرة من مجموعة مشهود لها بمعرفة المسيرة وعايشتها منذ ولادتها.. ثانياً: لا بد أن تتواصل الجهود التي يبذلها الحريصون على المسيرة والمشاركون فيها منذ الولادة، والمساهمون في ولادتها، وأخص بالذكر سمو الشيخ صباح الأحمد رئيس الوزراء في دولة الكويت، الذي تعايش مع المجلس وتفاعل معه ووقف على مواقع قوته ومناطق ضعفه، وهو موضع ثقة القادة، في مواصلة الجهود الخيرة، وأقترح أن يتوفر رديف لجهوده عبر الاستفادة من الهيئة الاستشارية كخزان للكفاءات في خدمة جهود الشيخ صباح. وذلك تعبيراً عن النبض الشعبي غير الرسمي تجاه القضايا المعلقة والقضايا المثبطة، ويمكن توسيع هذه الدائرة للاستفادة من عطاء المنظمات الأهلية الخليجية صاحبة المصلحة الأولى في سلامة مسيرة مجلس التعاون. ولحسن الحظ أن سمو الشيخ صباح واعٍ لضخامة المسؤولية ومشخص ممتاز للعقبات وعارف عن قرب بالمزاج العام، ولهذا فإن خطواته هادئة وفق استراتيجية التطويق والمحاصرة ثم المعالجة وبعدها الانطلاق. والمطلوب من قمة أبوظبي أن تبارك خطوات الشيخ صباح وتدعم التوجهات، وتسهل المأمورية عبر اتخاذ إجراءات بناء ثقة. وأولها اتخاذ قرار عملي لإسكات الإعلام المرئي المدمر والمثير في العلاقات بين الدول الأعضاء، ولا يمكن القول بأن أهل الخليج يمارسون الحرية الكاملة للإعلام دون دور للاعتبارات السياسية والأخلاقية والتراثية والمصالحية. ونقول بصراحة بأن الإعلام المرئي الحالي أضعف مسيرة العمل، كما جاء في تقرير الهيئة الاستشارية عن تقييم المسيرة، فالحديث عن الشفافية عظيم في إطار الشفافية البناءة وليست المدمرة والمثيرة والديماغوغية. وفي هذا الإطار لا نعفي أحداً فالكل يتحمل اللوم وإن كانت بنسب مختلفة. ثالثاً: مرة أخرى نقول بأن المطلوب من قمة أبوظبي هو تجديد الاهتمام، وتأكيد الالتزام، ونلاحظ أن الاهتمام انحسر، وهذا ليس من خيالي الشخصي وإنما من تعليقات وملاحظات وقفت عليها من خلال اتصالاتي مع المسؤولين في دول المجلس، ربما يعود ذلك إلى تبدل الأولويات، لكن السبب الأهم هو الوهن الذي أصاب الثقة المتبادلة. ولا سر في ذلك عندما نتابع تصريحات المسؤولين وتعليقات الإعلام. في الأسبوع الماضي احتضنت البحرين ندوة عن الأمن في الخليج، حضرها وزراء من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، وكبار المسؤولين في الخليج وإيران، واستمعنا مباشرة عن الارتياح الذي يظهره البعض في الحماية والمظلة الأمريكية خوفاً من أطماع وبسبب قلق ينتاب العلاقات بين دول المجلس. ونعود أيضاً إلى القمة الأولى في أبوظبي فعندما وقع القادة وثيقة قيام المجلس جاء ذلك وسط إيمان بمزايا العمل الجماعي، وبمعرفة تامة بالأعباء والتكاليف، ولا تنسجم متطلبات العمل الجماعي مع الإصرار على السيادة المطلقة، فلا توجد سيادة مطلقة في ظل العولمة، وفي إطار تنظيم إقليمي جماعي. وجميع دول العالم تقبل بالأعباء الجماعية وتعطي من مساحة السيادة لصالح العمل المشترك. وتتعامل مع القيود التي يفرضها العمل المشترك بإيجابية وليس بالضيق والتأفف. ومرة أخرى أعود إلى دور الشيخ صباح، وهو حكيم وواقعي، في استخراج منافع العمل المشترك وعدم تطابقها مع الإلحاح على السيادة. رابعاً: أعود إلى ضرورة اتخاذ قرار حاسم من قبل القادة في إزالة التحفظات على تحقيق المواطنة والسماح لجميع المواطنين بالمعاملة المتماثلة بصرف النظر عن الجنسية أو الموقع، وهو إزالة كل القيود على الممارسات التجارية والاجتماعية وفي جميع مظاهر الحياة. وقد أشبعت اللجان الوزارية والفنية هذا الموضوع بحثاً وتحليلاً ودراسة وتبقى الإرادة السياسية التي نبحث عنها التي انسحبت إلى حد ما من مظاهر العمل الخليجي المشترك. لا بد من وجود من يقتحم ومن يبدأ ومن يشكل المبادرة ويلعب دور القاطرة التي تدفع بالمسيرة، وأتصور أن المملكة في وضعها الجغرافي والاستراتيجي يمكن أن تتحمل هذا الدور. ربما يتحقق ذلك في الفترة القادمة إذا تعذرت ظروف قمة أبوظبي. خامساً: الجديد الذي سيواجهه القادة في الإطار الأمني، خارج الإرهاب والعمل الدفاعي المشترك، والوضع في الشرق الأوسط، هو برنامج إيران النووي، وهنا لا بد من الخروج بصوت جماعي قوي وواضح يدعم جهود المجموعة الأوروبية ويطالب إيران بتنفيذ التزاماتها الموقعة في إطار وكالة الطاقة العالمية، وإبراز المخاطر التي سيفرزها البرنامج النووي على سلامة دول الخليج وعلى ميزان القوى وخطورة التوترات التي ترافق تلك الواقعة. نؤكد على أهمية إعلان منطقة الخليج منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل كمنطقة ذات سعر مرتفع في الاستراتيجية العالمية، وهي حالة فريدة من أهميتها للاستقرار العالمي، وسينال هذا التوجه الدعم العالمي الذي يريد المنطقة واحة سلام واستقرار، ولا يجب ربط ذلك بقضايا الشرق الأوسط التي لها ضوابطها ولها ظروفها، وأتصور أن الإصرار على إعلان المنطقة خالية من سلاح الدمار هي وسيلة من وسائل الضغط العالمي على إيران.. وعدم الاستفادة من الجاهزية العالمية لهذا التوجه هو خدمة للاستراتيجية الإيرانية. خلال مؤتمر البحرين عن الأمن الخليجي، رفض الوزير الإيراني الإشارة إلى وضع الخليج كمنطقة خالية من سلاح الدمار الشامل، لأنه يعرف التكلفة على إيران، ويريد تمييع الموقف بالإشارة الغامضة عن الشرق الأوسط الذي تستغله إيران للدعاية والنشاط الإعلامي الراديكالي. ولا بد أيضا من أن أشير إلى ترسانة الخليج من الأرصدة المؤثرة، وهي فاعلية الطاقة وفاعلية الاستثمار وفاعلية العقلانية والاعتدال، وفاعلية الاستقرار، وكلها أرصدة تضع المنطقة في ركن النخبة في القرار العالمي.. وننتظر شيئاً كبيراً من قمة أبوظبي.
|