Tuesday 13th December,200512129العددالثلاثاء 11 ,ذو القعدة 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "الرأي"

خفف من الألم والمصابخفف من الألم والمصاب
موقف إنساني من مستشفى (بسبترين) إلى مستشفى (الأرطاوية)
مناور بن صالح الجهني

عندما ترقب قدوم غائب وتنتظره تكون تلك اللحظات كلها صعبة وقاسية، هذا ما عايشته عندما كنت مرافقاً مع قريب لنا وهو محيلان برغش الجهني -رحمه الله- كنت قلقاً لأن الانتظار شيء يقلق البشر وبالمقابل عندما تكون داخل أروقة المستشفى وتنتظر رداً من الطبيب تنتظر بشرى تزف لك الأمل، تزف لك السعادة بمشيئة الله، أخبرني يا طبيب عسى مرضه ليس بخطير ولكنه يرد عليك لا نستطيع إخبارك قبل ظهور النتائج، وها أنت قلق تنتظر تلك النتائج مرة تخرج ومرة تعود إليه وهو على السرير الأبيض ممدد وعندما تشاهده تخرج وتضع الستارة بينك وبينه، لأن شدة الألم جعلته يئن ويتألم لم تستطع تحمل منظره، تعود مرة أخرى والممرضة واقفة مرتدية زيها الأبيض وبكل أريحيتها وبكل هدوئها تراقب حالته وتسجل كل ما يستجد لديه، وأنت تخرج إلى حديقة المستشفى وتحاول أن تجلس وتأخذ قسطاً من الراحة ولكن تعود مرة أخرى وتردد الحمد لله على كل حال وتبحث عن الدكتور وتجده يتابع مرضى آخرين، تريد أن تستشف منه خبراً ولكن لا فائدة، خرجت ووقفت أمام بوابة المستشفى وسط ترقب طويل تذكرت مريضاً آخر في مستشفى (بسبترين) في ولاية (بنتل ثانية) بالولايات المتحدة الأمريكية أجري اتصالا عليه لكي أطمئن على والده الذي يرقد هو أيضاً على السرير الأبيض هناك وهو خالد بن صحن بن غنيم يسألني أين أنت وأخبره ويأتي موقفه في تلك اللحظات أرسل إليّ التقرير لكي أعرضه لك على الطبيب هنا، يخفف الموقف من القلق ويجعلني أشعر بهذا المجتمع المتماسك المتآخي حتى وهو خارج حدود الوطن لأن الموقف لا ينسى، ونخرج من طوارىء مستشفى الملك فهد للحرس الوطني الساعة الثالثة فجراً يوم العيد الثاني أنظر إلى السماء فإذا بي أشاهد تلك الألعاب النارية ومظاهر العيد تزينها، وأنظر إلى الوراء فإذا بي أشاهد المريض ما زال يتألم، نعود مرة أخرى إلى منزله لكي يستمتع بمشاهدة ابنتيه اللتين ليس له سواهما وهما لا يوجد لهما سواه، حقاً انها لحظات ترقب وانتظار أنت تترقب خبر الطبيب وهما يترقبان قدوم والدهما ولسان حالهما يردد قول الشاعر:
يا ليتني بينك وبين المضرة
من وخزة الإبرة إلى سكرة الموت
لماذا لأنه هو الوالد وهو العائل بعد الله، لأنه هو الذي تعب طويلاً وقام بنقلهما إلى مقر تعليمهما يومياً يقطع من أجلهما 120 كيلو متراً ذهاباً وإياباً ولم يكتف بذلك بل إلى مقر عملهما بعد تخرجهما، لأنه هو الذي وقف أمام مصاعب الحياة من أجلهما كيف لا ينتظران على أحر من الجمر وهو الأب الشفوق الرحوم بهما بعد الله، يا لها من رحلة كانت مصحوبة بألم وانتظار وترقب ودعاء وانطراح بين يدي الله، الكل في نومه وهو يبقى يئن من شدة المرض وهما تبقيان تترقبان حالته بعيون كلها رحمة بعيون مشفقة عليه بعيون ساهرة بعيون باكية بعيون محدقة إلى جسده الممدد على الفراش، حتى تأتي اللحظات الأقوى صعوبة والأقوى ألماً تلك اللحظات التي أصعب من التي قبلها يزيد عليه الألم ويأتي سائق سيارة الاسعاف لكي يحمله إلى المستشفى ولكنه يرفض تأتي ابنته وتمسك بيده ويوافق وتأخذه إلى سيارة الاسعاف وترافقه داخل كابينة الاسعاف بجوار الممرضة ترافقه مرافقتها الأخيرة، يخرج خروجه الأخير ولم يعد إلى المنزل مرة أخرى يخرج من البيت إلى المستشفى ويستقبله طاقم المستشفى بكل ما لديه من امكانيات يحاولون أن يتدخلوا ولكن المرض انهك جسده وشحب لون وجهه وغير ملامحه يقف الجميع معه من مدير المستشفى إلى المدير المناوب إلى موظف التنسيق إلى الطبيب يقفون جميعهم معه وهذا هو عملهم الإنساني النبيل الذي من خلاله يبذلون كل غال ورخيص من أجل انقاذ حياة مريض، ولكن لا راد لقضاء الله وقدره يبقى في غرفة العناية المركزة وهم يتابعون حالته حتى تخرج روحه إلى بارئها وهو مكبلاً بأنابيب المغذي، تأتي اللحظة التي كنا نترقبها يأتي الموت والحمد لله على كل حال لأن الموت لأن الموت يجعلنا نعيد ترتيب حياتنا من جديد ولأن الموت يوقظنا رغم أنه يخيفنا ولكن (كفى بالموت واعظاً) ويأتي الموقف الأكثر انسانية من مدير المستشفى سعود فلاح الأرقط مرة أخرى هو وزملاؤه يقدم سيارته من أجل نقله عليها إلى مغسلة الأموات، مواقف تبرز عند وقوع المصائب من هذا المجتمع المسلم المتكاتف.
يخفف الموقف من ألمي وقلقي ويجعلني أشعر بهذا المجتمع الذي دائماً متماسك ومتآخ. لقد كان موقفاً لا ينسى لأن المرض كان مرعباً لأن المرض هو عالم آخر وهو نوع آخر وهو مرض خطير يريد صموداً في وجهه متسلحاً بالإيمان، لأن بعده أتى الموت، الموت يجعلنا نستعد من جديد ويجعلنا نتأمل ونتدارك ما بقي، يشد عزائمنا على العمل لتلك الرحلة الطويلة، ينهض بنا من غفلتنا وسط هذه الحياة القصيرة، هناك أشياء تموت بالحياة وتعود للحياة مرة أخرى ولكن موت الإنسان لا يعادله أي موت، لأنه ذاهب بلا عودة إلى حياة أخروية منتقلاً من دنياه إلى آخرته، وعندما يسبق الموت صراع مرير مع مرض خطير أعاذنا الله منه كيف هي حال تلك الأسرة التي تنظر إلى عائلها، فتاة لا تستطيع التدخل تجاه والدها سوى كل يوم تسأله كيف أصبحت يا والدي ويرد من أجلها طيب لله الحمد تنظر إليه بروح يملأها الأمل ورياح الألم وروحانية المؤمن بقضاء الله وقدره تخرج إلى مدرستها ومعها دفتر تحضيرها وتحمل هم أبيها معها وحامله حزنها معها، تنتظر العودة بكل صبر، تتقاسم همومها هي وأختها.. ولكن هذه الحياة أختاه ماذا تظنين نستطيع فعله تجاه والدنا وهو له رب رحيم أرحم من الأم بولدها، اللهم ارحمه اللهم ارحمه اللهم ارحمه فهو كان رحوماً، فهو كان يقاسي الظروف الصعبة من أجلنا فهو كان يتعب لكي نرتاح ويسهر لكي ننام ويكافح طوال يومه لكي نعيش في ستر واستقرار، اللهم ارحمه لأنه رعانا ونحن جاريات وأنت وعدت من يرعى الجاريات بالجنة، فوعدك حق وقولك حق ولقاؤك والجنة حق والنار حق والموت حق، اللهم إننا لم نذق ألماً أقوى من ألم مصابه فلا تحرمه أجرنا، اللهم ثقل ميزانه بالحسنات يوم العرض الأكبر عليك، واجعله ممن يأخذ كتابه بيمينه وأجمعنا معه في جنات النعيم اللهم ان فراق الأب لا يوجد فراق أقوى منه ولا مصيبة أشد من مصيبته فأجرنا في مصيبتنا.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved