جميعنا نعرف بأن صدمة المواجهة والتكشف على العالم الغربي المتحضر الذي تجاوزنا بأشواط حضارية واسعة، كان لها ارتداداتها الواسعة على العالم العربي، والتي ما زلنا نلاحظ آثارها إلى اليوم، وقد يكون من أبرز ملامح هذه الصدمة مع العالم الحضاري التي تلت سباتاً وتخلفاً كان يعم المنطقة، هو محاولة الوجدان العربي المكلوم بهويته وأطلال حضارته السابقة، إقامة عدد من العمليات الدفاعية التي تمكنه من المواجهة، وقد يكون أبرز تلك (الميكانيزمات) هي عملية نكوص كبرى إلى الوراء لاستمداد الهوية والأمجاد والمنجز الحضاري، ومحاولة ربطه بالواقع بطرق كانت على الغالب تلفيقية ومنبتة عن واقعها، تلك الذات العربية المفخمة المضخمة خلقت لها العديد من الأدبيات والأفكار (التي لا ترقى إلى مستوى الفلسفة) والتيارات السياسية التي تحاول أن تستقطب العواطف دون أن يكون لها برامج عمل منتجة وفعلية. من ناحية أخرى نجد أننا على المستوى الخليجي كتجربة خاصة ومتأثرة أيضاً مختلفة نوعاً ما عن عموم العالم العربي، أسهمت الطفرة الاقتصادية الوافرة التي عمّت المنطقة منذ بداية السبعينيات، في خلق ذات أخرى أيضاً متفخمة متورمة نظراً لعملية الجذب التي خلقتها الطفرة في هذا المكان، واستقطابها لكثير من شعوب العالم كعمالة، انخفض التصنيف الإنساني والتقدير البشري تجاه تلك الشعوب، وأدخلناها في فهارس عجيبة لا تمت إلى الحضارة والإنسانية بصلة، ذلك الشعور بالشوفينية والتعالي على الشعوب الأخرى اتصل بالأدبيات الساعية إلى (النكوص لاستمداد معالم التقدم) في العالم العربي واستخدم آلياتها في العمل، وبالتالي بتنا نكرس أنفسنا كشعوب نادرة وذات مهمة إصلاحية، ويجب أن نركب أجنحة ونطير حول العالم نصفعه صفعتين حتى يرتد إلى صوابه، ويؤمن بما نؤمن به، وحينما كان العالم مشغولاً بصنع البرامج الإنمائية التي تسهم في تطور الفرد وتنميته، وتسهم في القضاء على الجهل والفقر والأمية، وترسل المركبات الفضائية لتدور حول المريخ، كنا نحن مستغرقين في بناء الأسوار الأسمنتية حول العقول والأفئدة ومنخرطين في سوق عجيبة تفهرس البشر والعمالة في فهارس منخفضة الإنسانية، فالجنسية الفلانية نشيطة لكنها تمارس السحر، والأخرى رخيصة لكنها تفتقد سلوكيات النظافة، والثالثة جيدة لكنها بحاجة إلى إجازة أسبوعية، وكل هذا بطريقة مغيبة لهم كذوات وكحضارات عريقة، ولاسيما حينما نسلخها عن إرثها الثقافي أو عن ممارستها الدينية والعقائدية، ونجبرهم على الانخراط في معتقداتنا الخاصة على اعتبار أننا نمتلك الحقائق المطلقة، لكننا على أرض الواقع حينما نربط هذا جميعه بالحضارة كإطار شامل على مستوى تقدير إنسانية الأفراد وحفظ حقوقهم المادية وحرماتهم الاجتماعية، وتسخير المنجز التكنولوجي والعلمي لتيسير سبل الحياة، نجد أننا فارغون من هذا كله، وليس هناك أي تطبيق على مستوى الواقع، وأننا أسرى لذات جوفاء مركبة وعاجزة عن احترام سواها من الشعوب، وعاجزة أيضاً عن الإنتاجية والفاعلية على المستوى الحضاري العالمي الموازي. وأخشى ما نخشاه هنا أن تتسرب هذه النظرة إلى أجيالنا القادمة (إذا لم يكن قد تسرب وانتهت حيث فلان قطعة.. وهذا سواق.. وهذا خادم.. وهذا.. محفر الطين.. وهكذا ينغرس هذا عميقاً في وجداننا ومن ثم لا يلبث الصغار أن ينطلقوا إلى آفاق العالم ليصلحوا من شأنه ويعدلوه لكي يصبح يشبهنا أو نسخة منا.. أو يعاقبوه بقنبلة متفجرة ترده إلى الطريق الصواب.
|