ولما كانت الساحة الأدبية - كما اللحد الذي تصوره (المعري) ضاحكاً من تزاحم الأضداد - تفيض بواعدين، لم يبلغوا حد النضج، وتزدحم بموهوبين استكملوا عدة الإبداع، وتموج بأدعياء يكتبون، ولا يبدعون، ويشيرون، ولا يثرون، ويطنبون، ولا يطربون. ولما كان المشهد النقدي دُوْلة بين أوزاع المبدعين والأدعياء والنقاد المداهنين؛ فقد أصبح لزاماً على حراس الفن الرفيع أن يأخذوا على أيدي العابثين والمعذرين، وأن ينفوا عن مشهدهم زائف القول وردي الكلام، وأن يتولوا إقالة العثرات. فكل مشهد أدبي بحاجة إلى من ينقي أجواءه، ويرشد ضاله. ولاسيما أنه مسرح للأحداث المتزببين، وللكهول المتصابين، ومثل هؤلاء يسارعون بالتافه من القول، والصارم من التأييد، وواجب المقتدرين أن يبذلوا جهداً مناسباً، يحمي من الجور والمجازفة. ولكيلا نصل بالتيئيس حد الإحباط، فإننا نشير إلى مبدعين تخطوا بأعمالهم نطاق المحلية، وإلى نقاد متمكنين، يتوخون الحق والموضوعية. ولكن الفئتين من القلة، حيث لا يتراءاها إلا ك(زرقاء اليمامة)؛ لضياعهما وسط اللغو الغالب والصخب الفارغ، فعلى مستوى الإبداع المحلي لا نجهل جيل الوسط من أمثال (رجاء عالم) و(عبده خال) و(يوسف المحيميد) وآخرين غيرهم، يمثلون الوسطية الزمانية بين فئتي الريادة والتأسيس من جهة، وفئة الانطلاق التي اختلط فيها الحابل بالنابل. فالثلاثة طليعة الممثلين لتلك المرحلة، من حيث البعد الفني على الأقل. والأخيران يمتلكان موهبة سردية، وإن لم يتضلعا من (الثقافة) ولم يسيطرا على (اللغة) بالقدر المتكافي مع مبلغهما من الفن، ولكنهما يتصدران لداتهما، ومثل هذه الإمكانيات تعفو عن كثير. ف(الخال) يكتب عن معاناة و(المحيميد) يكتب عن انطباعات، والثلاثة لا يقدرون على إعتاق المشهد. ولكل مرحلة من مراحل: الريادة والتأسيس والانطلاق مبدعون لا يقيلون العثرة، ولكنهم يخففون من حدتها ومأزوميتها، فعلى مستوى الريادة والتأسيس نجد (السباعي) و(الدمنهوري) و(الناصر) و(خوقير)، وعشرات آخرين، ممن لهم أعمال تمد بسبب إلى الأصالة بمفهومها الغربي، ولقد رصدت ذلك كله في (المدخل السردي). والتصدي للمتهافتين على الكتابة السردية قبل النضوج وصد الممجدين لهم قبل الاستيعاب، لا يعني النفي من المشهد، وإنما الغاية ترشيد مساره، وتسديد سهامه. ولن يستقيم أمر الإبداع السردي إلا بالمكاشفة والمواجهة، وفق آليات ومناهج وخبرات ومعارف. ومتابعة الدراسات الأكاديمية المخطوطة والمطبوعة تكشف عن أبعاد فنية ولغوية ودلالية، تطفئ غضب المأزومين من غثائيات الأدعياء. فالأستاذ (معجب العدواني) تقصى مجمل تلك الأبعاد في أعمال (رجاء عالم)، والدكتورة (عائشة الحكمي) والدكتور (عبدالله الحيدري) تقصيا أطرافاً من الجوانب اللغوية والفنية والدلالية لطائفة من السرديين. ولقد كنت سعيداً بالإشراف أو بالمناقشة لبعض تلك الرسائل، والثلاثة المبدعون الذين ضربت بهم المثل، ليسوا وحدهم ممن يشار إليهم بالبنان كنماذج لاستيفاء مؤهلات الإبداع، ولكنهم الأكثر حضوراً والأقل توفراً على احتفاء المشهد. ولسنا نريد بالاحتفاء الإشادة، وإنما نريد الدراسة المعمقة وتثوير كل المنطويات. وروايات (الخال) و(المحيميد) أثارت المشهد، ولكنها إثارة متواضعة لا تحرر رؤية، ولا تؤصل لمعلومة. والتحفظ على بعض الهنات لا يصادر الحق، ولست هياباً ولا وجلاً من مسايرة المتحفظين على بعض استفزازات (رجاء عالم) وإن كانت كاللمم، والحسنات يذهبن السيئات. وبودي لو حكم المشهد بالعدل، حيث لا يكون في نفوس المبدعين وأشياعهم حرج مما حكم به النقاد العدول. وكم كان بودي أن يفرغ المتمكنون لقراءة سائر الأعمال السردية، وأن يواجهوها بمناهج وآليات تحفظ الحقوق للمتلقي وللمبدع وللمشهد؛ فالنقاد والمبدعون كالمستهمين على مشهد الأدب، ومن الخير ألا يستقر فيه إلا ما ينفع المتلقي لغوياً ودلالياً وفنياً. والاستقراء المحكوم بضوابطه هو الحل الأمثل في زمن الانفجار السردي وفوضويته، ولاسيما أن المستجد من الأعمال يشكل منظومة تحولية: شكلاً ودلالة، لغة وتِقانة. فأين منّا الناقد الجدير والمبدع القدير؟. ولو عدنا إلى بعض ما يشغل المشهد لوجدنا أن رواية (القارورة) - على سبيل المثال - خليط من ظواهر شتى، ولقد كنت أحسبها من قبل رمزاً للمرأة، حتى إذا قرأتها تبين لي ألا علاقة لها بالقوارير؛ إذ هي كما قماقم العفاريت، أو صناديق المصفدين في الأغلال، على شاكلة (شُبيك لُبيك) وتلك خليقة الحكواتيين، فالسارد عوَّل فيها على الحكاية الخرافية، وكاد يخلط بين الوقائع الحقيقية بكل فقاعتها، كأحداث الخليج ومتعلقاتها وحكايات العجائز على الأطفال. وما ساقه على لسان الفتيات الثلاث كان شائعاً ومعروفاً ومتداولاً على ألسنة الأطفال في (نجد) بل في (بريدة) بالذات، وهو من أبنائها. وكنا قد سمعنا شيئاً من هذا في طفولتنا من أمهاتنا وجداتنا، وكنا نسمي تلك الحكايات الخرافية (سباحين) الواحدة (سبحانية). والأديب (عبدالكريم الجهيمان) ساق أطرافاً من هذه الحكايات في أساطيره الشعبية، كما ساق شيئاً من ذلك (فهد المارك) في كتابه (من شيم العرب) وجاءت أمشاج من الخرافات والأساطير في بعض كتب الشيخ (محمد بن ناصر العبودي)، وجاءت باللهجة العامية البسيطة في سلسلة كتب شعبية ألفها وطبعها الكاتب الشعبي (سليمان بن إبراهيم الطامي) ومن قبله والده رحمه الله، وألم بشيء من ذلك كله الكاتب (سليمان بن محمد النقيدان) رحمه الله. وتوظيف التراث العربي أو الشعبي يتطلب الرحيل بالموروث لا الرحيل إليه، وتحويله من نص حكواتي إلى نص إبداعي، وعيب المستثمرين النقل الحرفي المتنافر مع عبارات الربط. والمتابع للمسترفدين، لا يجد مسافة فنية بين التناولات، حيث يمتاز العرض الروائي عن سائر العروض الأخرى، وبخاصة حين يتخلى الروائي عن حسه القصصي، ويقع تحت طائلة التجريب التي ترفض الشرط، وعلى ضوء هذا التمييع للضوابط فإن بإمكاننا أن نسمي مشروع معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر (أي بني) عملاً روائياً؛ لأنه إطلالة على الماضي والحاضر. و(المحيميد) أكثر جرأة من (الخال) في الخروج على الشرط الروائي، والاثنان يمتلكان موهبة سردية لا مزايدة عليها، وتلك الموهبة وذلك الاقتدار لا يصادران حقنا في القول، ولا يحملاننا على المداراة والمداهنة. والاحتفاء بالمبدع لا يبيح غمط المتلقي وإكراهه على قبول الهنات التي يمكن تلافيها، والتي تعد من عجز القادرين على التمام. والأساطير والخرافات وأدب الاعتراف والانطلاق من قعر الواقع بكل تدنياته أخذت طريقها إلى بعض الأعمال الروائية بعد أمة، ولم يكن هذا الاحتفال مبادرة من المبدعين والنقاد؛ ولكنه ناتج إصاخة لما يعتمل في المشاهد الغربية، ومشاهدنا مرتهنة لتجريب الآخر أو تقليده، ولما نشب عن الطوق، والعاجز من لا يستبد، ولا يؤز الخلاف إلا المكابرة، فكلما قيل لمدَّعي المبادرات: هاتوا برهانكم، انفجروا كالبراكين، وتعمدوا الإقصاء والتجهيل وتلفيق الاتهامات. وبدهي أن يكون للموروث العربي في التفسير والتاريخ احتفاء بالخرافة والأسطورة، ولكن المشهد الأدبي ولاها الأدبار، حتى التقطها الغرب من تراثنا، فكان أن نبهنا إلى أهمية ذلك، وحملنا على استرداد بضاعتنا، دون علم، ودون وعي، وكان اندفاع المفسرين لأسطرة أحسن القصص تعويلاً غير سديد على قول الرسول - صلى الله عليه وسلم- : (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج...) وهو تعويل يدل على خصوبة الخيال والاستجابة لفطرة الإنسان الميال بطبعه إلى الأساطير. وتوظيف الرمز والأسطورة والخرافة في الأعمال الروائية التجريبية مثار جدل صاخب بين النقاد والمنظرين، ومثله توظيف التراث التاريخي، والمعضلة أن المشهد دولة بين النفي والإثبات. لقد أتيحت لي فرصة القراءة ل(كتاب التجليات: الأسفار الثلاثة) ل(جمال الغيطاني) ومتابعة ما كتب حول ظواهر الرمز والأسطورة والتاريخ، وبخاصة في جانب التوظيف التراثي، فتبين لي أن الإغراق في الأسطورة والخرافة عشق المبدعين المعاصرين، وهو إغراق غير متوازن، وغير منضبط، وقد يكون دون وعي، وقد تزامن ذلك مع الإيغال في التجريب، الأمر الذي قد يفوت علينا متعة الفن القصصي الرفيع، ولربما تتداخل تلك النزعات مع ظاهرة الرواية التاريخية، ولكنه تداخل يحتاج إلى مزيد من الاستقراء. والاندفاع في التجريب أدى إلى الانقطاع المتعمد، حتى أصبح المتابع لا يقدر على التفريق بين القصة والرواية والسيرة والأسطورة والتاريخ والحكاية الخرافية، إلا إذا تطوع الكاتب، وكتب على الغلاف نوع العمل، إن كان رواية أو ديوان شعر أو قصة أو سيرة ذاتية، فالشكل لم يعد ذا قيمة، مع أنه السمة الأهم للتفريق بين أنواع الإبداع القولي. ومع أن رواد الإبداع السردي في (مصر) و(الشام) قد استزلهم الغربي، إلا أن الممانعة حالت دون الوقوع في المسخ. والراصدون من النقاد يستبينون حجم المتغير الشكلي والفني واللغوي والدلالي، وهو حجم يتنازعه الإسراف في التهافت على المستجد لدى الشباب، والاعتدال المتردد لدى الكهول. وعلى سبيل المثال فقد اختلف المنظرون في التفريق بين الرواية والقصة، وذلك في إطار المستجد الشكلي، وجاءت آراؤهم في غاية من العماية والتيه، حتى لقد اختلفوا حول عمل (نجيب محفوظ) (اللص والكلاب)، هل هو عمل روائي أم قصصي؟ ذلك أن للرواية أركاناً وشروطاً ومواصفات تتعلق بالشخصيات والأحداث والأزمنة والأمكنة، ولا ترتبط بالمقدار الكلامي على سنن المفرقين بالكم. والإشكالية حين تتشابه الأحداث والشخصيات، وتطول الأزمنة، وتمتد الأمكنة في إطار تشابه الأشكال. ومثلما ظهرت مدارس نقدية في الغرب بعدد النقاد، وتفاوتت في الشأن السردي والنقدي والأدب المقارن، فقد ظهرت في المشرق العربي حالات مماثلة، ولكن البعض منها مجتث لا يقر، وبخاصة عند المبهورين من سرعة التحولات في المشاهد الغربية والعاجزين عن ملاحقتها. والنقاد في ظل التحولات السريعة يختلفون حول النوع الإبداعي، فقائل بأنه عمل روائي، وقائل بأنه عمل قصصي، وقائل بأنه قول لا يلحق بالرواية ولا بالقصة. وسبب اختلافهم الاختلاف حول التقيد بأدنى حد من الضوابط والمعايير، والمعضلة نفسها امتدت لسائر الظواهر الأدبية، ولكنها دون إشكالية الرواية. ويقيني أنه لا مكان للفوضى ولا للتسيب، فالشعر يجب أن يكون شعراً، والسرد يجب أن يكون سرداً، ولا تتحقق الشعرية ولا السردية إلا بسمات وضوابط لغوية وفنية وشكلية، يعرفها النقاد، ويركنون إليها حين يختلفون؛ إذ كل نزاع فني أو لغوي لابد له من أهل ذكر يفضون التنازع بوصف أو بضابط أو بعرف، وليس هناك شيء في الوجود إلا وله معهود ذهني يهرع إليه المختلفون، وله نظام يحكم حركته، وتعديل الأنظمة والشروط يختلف عن إلغائها. والمصير إلى مفهوم (الكتابة) بوصفه مصطلحاً مفتوحاً يلوذ به كل عابث يعطو إلى فُسَحِ التسيب والتمييع لا يمكن أن يفض التنازع. وإتاحة الفرصة لكل مبتدئ أو مدعٍ أن يقول عن محاولاته الفجة: إنها شعر أو سرد فني، إمعان في الضياع، وشعوره بأن من واجبنا أن نذعن له، وأن نقبل قوله وكأنه (حذام)، ولا نكلف أنفسنا عناء البحث عن مبررات تثبت أن هذا العمل شعر أو سرد، وما هو - في نهاية الأمر - بالشعر ولا بالسرد، هذا الشعور، وتلك الفوقيات الآمرة أضاعت الضوابط، وخولت أدناهم أن يكتب سطراً أو سطرين أو حتى كلمة واحدة، ويسمي ذلك عملاً قصصياً، وقد اقترف البعض مثل هذا، وأقبل المعذرون لإكراهنا على الاحتفاء بهذا العبث، بل طاروا به فرحاً، وعدوه فتحاً مبيناً في عالم السرديات، والمخجل أن هذه الدعاوى على رغم فجاجتها لم تكن من عند أنفسهم، ولو أنهم ابتدروها لكنا استسغناها، وقبلنا بها على مضض، وألحقناها بنظائرها من (التوقيعات) مع الفارق، ولكنها لفحة سموم من لفحات الغرب عصفت بنا فتلقيناها، كما لو كانت مبادرة لا يستقيم شأننا إلا بها. ومن المؤذي أن طائفة من المبتدئين يمارسون التفحش والانحراف، ليكون قولهم مثار جدل موضوعي لا فني، وهذا الجدل في نظرهم كاف لتحقيق الحضور، وما يدري أولئك أن السقوط الأخلاقي والانحراف الفكري والجنوح السياسي، لا يجني من ورائه المقترفون إلا سبة الدهر، حتى إن البعض من أولئك تسلل لواذاً وطبع عمله خارج البلاد، ثم سربه عبر النوافذ، وأتاح الفرصة للكتبة لتوجيه اللوم إلى من يتهمونهم بقمع الحرية، وممارسة الحق وأطر المتفلتين هو عين الحرية؛ إذ لا حرية في ظل الفوضى. والفن الرفيع هو الذي يظفر صاحبه بشرف اللفظ، وشرف المعنى، وجودة الفن، ولقد قيل: إن الفن يرفس في القيود، ولا فن بدون شروط قاسية تقمع الأدعياء والمغثين، ومتى تعرض المبدع لأي إخفاق في السمات والضوابط، تحول العمل إلى زبد يذهب جفاء. وكل الإيجاف بالقول أو بالفعل لا يغير من الأمر شيئاً:
(أيَكونُ الهِجانُ غَيرَ هجانٍ أم يَكونُ الصُراحُ غَيرَ صُراحِ؟) |
|