كنا قد نشرنا في صفحة سابقة مقالاً كتبه رجاء النقاش عن الشاعر المرحوم كامل الشناوي.. وها نحن الآن ننشر الحلقة الأخيرة عن هذا الشاعر.. لكن كامل لم يقبل أبداً أن يجعل الفن فوق الحياة، كانت الحياة عنده فوق كل شيء حتى الفن الذي كان يملك منه الكثير.. كانت سهرة من سهرته في مقهى الفيشاوي يقرأ فيها الشعر، ويلقي بسخرياته العذبة، ويتأمل ويتناقش، ويشتري الحكمة والجنون، ويبيعها للآخرين.. ليلة مثل هذه الليلة يسهرها حتى مطلع الفجر كانت عنده أفضل وأعمق وأمتع من كتابة مليون قصيدة، تأتي له بمزيد من الشهرة أو المال رائحة الحياة عنده مقدسة، فاتنة.. ولقد كنا نحن الذين نحبه ونملأ بعض لحظات حياته (وحياته كانت عريضة جداً تستوعب الكثيرين، لكن أحداً لا يستطيع أن يستوعبها كلها في لحظة بلحظة)، كنا دائما نتمنى أن يكتب مزيداً من الشعر وكنا نتمنى أن تكون حصيلة حياته عدة مجموعات شعرية لا مجموعة واحدة، وكان يعدنا ولا يستجيب للوعد ويمنينا ولا يحقق الأمنية. ولقد رحل الشناوي الآن فهل كان من الصواب أن يرحل ولا يترك لنا نحن محبيه سوى ثلاثين قصيدة؟ على أنني أسأل نفسي وأنا أعاتب هذا الرجل العزيز.. أكنا نحن على حق عندما طلبنا منه الشعر ومنحنا هوى الحياة؟ أكاد أشعر أنه كان أصوب منا لأسباب كثيرة. لقد عاش وملأ الدنيا وجعل لكل لحظة في حياته طعما وكانت حياته في جملتها قصيدة أجمل وأعذب وأبسم من أي قصيدة يمكن أن يكتبها شاعر متمكن. العلاقات اليومية للناس، ليعيش في علاقات إنسانية خالصة فالناس في الليل أكثر (إنسانية) منهم في النهار، إنهم في النهار يتقسمون حسب مصالحهم، لكنهم في الليل يتساوون تماما، كما أن الليل عنده كان فترة للتأمل والانطلاق بلا قيود، الليل يلقي بأعباء الإنسان بعيداً ويحرره. ولقد قيل أحياناً عن كامل الشناوي إنه لم يكن يقوى على العمل أو يحبه وانه كان لا يعطي كثيراً في أي صحيفة يعمل بها. وفي اعتقادي أن كامل الشناوي كان عنصراً رئيسياً من عناصر محبة العمل في أي مكان ذهب إليه.. لقد كان ينشر البهجة أينما راح والبهجة تجعل الإنسان ينتج في يوم واحد، ما ينتجه في يومين بلا بهجة، لقد جعل كامل من البهجة حافزاً من حوافز الإنتاج في كل بيئة مسهاً بما فيه من كهرباء الحياة! وكامل الشناوي قام في الوسط الفني والصحفي والأدبي بدور آخر، كان بستانيا يزرع الورد ويسقيه ويرعاه، كان عشقاً من أخلص عشاق النبوغ إذا وجد في إنسان لمسة من هذا النبوغ، أحبها وتغنى بها ووضع يد صاحبها عليها حتى ينطلق ويتقدم، وما من موهوب في بلادنا خلال السنوات العشرين الماضية إلا وقد (عمده) كامل الشناوي قبل أن يعرفه الناس، ولذلك قال لي عبد الرحمن الخميسي ونحن نسير في جنازة كامل، أترى هؤلاء الذين يسيرون وراء النعش؟.. لقد ترك كامل في حياة كل واحد منهم لمسة من الحب والحنان ودفعه إلى الأمام. قلت للخميسي: نعم أنت على حق، وأنا أعتقد نفس الشيء! لقد كان يتحمس بكل موهبة إنسانية، سواء كانت هذه الموهبة جمالا في الوجه أو جمالا في الصوت، أو جمالا في العقل والوجدان. كان يتحمس للمواهب حماساً جميلاً.. بلا حدود، والموهبة تتحول عنده إلى أغنية يرددها في كل مكان، إنه يتحدث عنها ويكرر الحديث، ولم يكن يسأم التكرار حتى تأخذ الموهبة حقها وتتألق وتلمع. ولقد كان كامل الشناوي يحب الليل حباً عجيباً، إن اللون المفضل عنده هو لون الليل، ولقد كان الليل في حسابه هو الحياة وكثيراً ما كان ينام النهار كله ويسهر الليل كله حتى تظهر أشعة الصباح فينام.. ولعل فلسفة ذلك عنده هي أنه يريد أن يبتعد.
|