لم يكن من عادتي أن أكمل قراءة عمل روائي في وقت قصير أو متواصل، بل لم أكن جاداً في قراءة الأعمال الروائية، وليس ذلك بمانعي من القول في شأنها قدحاً أو مدحاً، والسعي لإقالة عثرات المتخافتين بقول ليس من الإبداع ولا من النقد، ومغالبة المعوقات في المشهد الأدبي محليا على الأقل. وحين لا يكون لي اهتمام حاضر المشهد في هذا اللون من القول السردي فإن اهتمامي بالدراسات التاريخية والتنظيرية والتطبيقية لا يقل عن اهتمامي بالشعر وفنونه، وما صرفني عن النصوص السردية إلا ما يعتريها من عجف في اللغة لا ينقي، وتسطح في الأفكار لا يغني، وخروج متعمد على الضوابط لا يحتمل، وكتابات كما الخنثى المشكل، لا تعد من الإبداع في شيء. ودعك مما سوى ذلك من جنوح أخلاقي، أو انحراف فكري، وشطح سياسي، يسوِّق به الكتبة المبتدئون كاسد أعمالهم. وعزوفي عن رديء الأعمال ما كان له أن يحول دون التواصل غير العازم وغير الدائم مع عمالقة السرديين في الوطن العربي، ومع ما ترجم من أعمال عالمية. ولن استعرض شيئا من ذلك، فهي معروفة عند ذوي الشأن. ولربما جاء ذلك العزوف نتيجة الإخفاقات الذريعة مع تأثره برأي (العقاد) في السرديات الروائية، فهو لا يرى تكافؤاً بين الجهد والوقت من جهة والقيمة المكتسبة من جهة أخرى، ومن ثم يفضل قراءة الشعر، لكثافة الدلالة وانزياح اللغة، ومغالبة الفهم، ولقد كانت له مع ذلك إلمامات نقدية وله رواية يتيمة تقص حبه الفاشل. وجناية بعض الروائيين الأحداث أنهم لم يسيطروا على اللغة، ولم يجودوا نظامها، ولم يتضلعوا منها بالقدر الكافي، كما أنهم لم يتوفروا على (تقانة) السرديات الإبداعية التي لا يجوز المساس بها، والبعض منهم مارس الكتابة في غياب الموهبة والتجربة والثقافة، حتى لقد أصبح مولوده على هذه الشاكلة خداجاً مبتسراً، فيما أسفّت طائفة من الموهوبين والأدعياء معاً في البعد الموضوعي إسفافاً اشمأز منه الغيورون على قيمهم الأخلاقية، وفي ذلك الاقتراف ضياع للإجلال والجمال. وتلك الظواهر والسمات الخارجة على المألوف يستمرئها المنطفئون والقاعدون، ويشيد بها المجاملون حياء أو مقايضة، ولأنني ممن فُرضت عليهم متابعة الحراك الإبداعي والنقدي بحكم تخصصي وميولي واشتغالي، فقد وجدت من خلال متابعتي للأعمال السردية وللقراءات النقدية التطوعية على الأقل محلياً وعربياً شططاً وتحاملاً من كل الأطراف. فالإبداع الروائي ونقده في النهاية ظالم ومظلوم، ولإنقاذ الموقف، وترشيد المسار، لا بد من مبادرة حصيفة، توقف هذا الهدر المسرف والتدهور المفجع. فالمبدعون الروائيون في الوطن العربي كافة، لا أكاد أستثني أحداً منهم، يمارسون الصلف والتعنت والتعالي، وكأنهم بقية الفن الرفيع، جاؤوا على فترة من عمالقة الإبداع، وأحسب أن السامري أضلهم حين قال: (الزمن زمن الرواية). والنقاد المسايرون للمبْدعين المبتدئين والكتبة المتطفلين على الفن السردي، يسرفون في الإقبال والإدبار، فلا يحبون هوناً، ولا يبغضون هوناً. ومتى فقدت الموضوعية والمعيارية، وغاب الاعتراف بحق المتلقي، دخل أطراف السرديات في متاهة التلاسن القائم على الإقصاء والإلغاء والتجهيل. وحين يكون هناك عنف ورد فعل أعنف، لا يجد الوسطاء مناخاً مناسبا لفض الاشتباك وتقرير الحق، ولا يجد الوسطيون أجواء ملائمة للحراك المتوازن، فكل طائفة تحمل شطراً من الخطأ، وما كنت فيما أقول بسبيل البحث عن المشاجب، فكلنا خطاءون، والخيرية فيمن يستبق الخيرات، ويستجيب لداعي الحق، ويبحث عن سبيل يؤدي إلى إحياء الفن الأصيل، ويعمل على إيقاف نزيف القول المجاني. والمتقرئ لركام القول يحس بأن المصداقية تكاد تكون مفقودة من كل الأطراف، الأمر الذي فوت على الراهن النقدي فرصاً ثمينة، وهذه التشنجات أفقدت المشهد الأدبي التوازن والإيجابية. والمحبط أنها تصَّعَّد في سماوات الأدب، فيما تظل بوارق الأمل ضعيفة. الذين يُنحون باللائمة على النقاد المحجمين أو المترددين، ويصفونهم بالتقصير أو بالعجز، لا يدور في خلدهم ما يحول بين الناقد المحتشم وما تشتهي نفسه من إبداع آخذ بمجامع الجلال والجمال، فأكثر الأعمال ضعيفة، وردود الفعل المسفة على أشدها، والنافخون في القرب الفارغة يوهمون الرجال الجوف بالامتلاء، والناقد الذي يحترم مكتسبه ومصداقيته، لا يمكن أن يفرط بشيء مما اكتسب، لأنه متى زج بنفسه في تلك الأتون سلقته الألسنة الحداد، وقد يدخل بين أطراف متشنجة مسكونة بالمراهقة الفكرية والأدبية، تقول الكلام على عواهنه، ولا تلقي له بالاً، وهي بما تقول لا تبحث عن الحق، وإنما تنشد الغلبة والتهوين من شأن الناصح الأمين، ومثل هذه المواجهات التصفوية للسمعة تصرف أصحاب المثمنات عن الدخول في مناكفات خاسرة من أصلها. وفي كنف هذا الاندفاع المهتاج والإحجام المتخوف، لم تعدم السرديات القصصية أو الروائية المتابعين الواعين من النقاد الأكاديميين ذوي التخصصات السردية من الطلبة الدارسين. ولكن الرسائل الجامعية تظل حبيسة الأدراج، فلا تسد خلة، ولا تروي غليلاً، ثم إنها محكومة بمناهج وآليات وخطط تقليدية متكررة، يفرضها الآمرون في الأقسام العلمية، وكثرتها أميل إلى الرصد والتوصيف والتاريخ، بحيث يقع الحافر على الحافر. والتناظر والنمطية في المناهج والخطط والآليات فوت عليها أشياء كثيرة، وأفقدها الألق والجاذبية، وقعد بها دون الاستفادة من الآليات والمناهج الحديثة، حتى لقد زهد أصحابها بها، وترددوا عن نشرها، فكانت كأن لم تكن، وما شذ عن القاعدة يؤكدها. على أن قلة من الدارسين أخذتهم الثقة والشجاعة، وأقدموا على طباعة رسائلهم، فكان أن سدوا خروقاً أوسع من الرقاع، ومما طبع محلياً على سبيل المثال رسالة الدكتورة (منال العيسى) عن صورة الرجل في القصة القصيرة، ورسالة الدكتور (محمد العوين) عن المرأة في الرواية، ورسالة الدكتور (حسن حجاب الحازمي) عن البطل، ورسالة الدكتور (إبراهيم الشتوي) عن الصراع الحضاري في الرواية المصرية، وقد وقع فيما وقع فيه سلفه من تجانف لما لا يمكن القبول به، ومن قبل هؤلاء رسالة الأستاذ (سحمي الهاجري) عن القصة القصيرة، وهي أعمال تتميز بالضوابط الأكاديمية، وتترسم خطى من سبق. والدراسات التنظيرية والتاريخية في متناول اليد، وشروط الرواية وأركانها ومتطلباتها الأسلوبية والفنية والدلالية مبسوطة ومبذولة لكل من أعوزته المعرفة على أصولها. وقد تكون الدراسات المترجمة أكثر اتزاناً وتوازناً، وأوفر معلومة، وأكثر حيادية. وليس هناك ما يحول دون معالجة التقصير في أي عمل إبداعي، ولكن الإشكالية في رفض معطيات الخلفية القرائية، وفي عقابيل ذلك. فالناقد المحافظ على الشرط السردي والضابط اللغوي والتميز الأسلوبي لا يقبل التجريب المنفصل عن تلك السمات. والمغرم بالتجريب لا يجد بداً من رفض هذا النوع من النقد، لأن المتهافت على بوارق التجديد يكاد يقع في التخريب من حيث يدري أو لا يدري، وهذا الميل الكلي يحمله على رفض الناقد المتمسك بحق التجريب المعقول، بالشرط الفني المتداول في المشاهد النقدية كافة. والمبدع الذي انزلق في متاهات التجريب، وأغوته الإغراءات الجامحة، لا يجد بداً من المواجهة العنيفة لكل من أراد أطره على ضوابط العمل الروائي. والمتحفظ المتمكن المتابع للمستجدات المميز بين التجديد وحداثة الانقطاع، لا يمانع من التجريب المعقول، ولكنه لا يقبل الانقطاع اللغوي والفني، ولا يستسيغ النثرية التي لا تتوفر على الأدبية. والذين يتقبلون هذا اللون من التجريب الذي قد يتجاوز حد الانقطاع، يعنفون في مواجهة الناقد المصطحب لشروط الفن، ويزدرون الحد المعقول من الضوابط، وهم في ظل الاهتياج الفارغ لا يقولون الحق، بحيث يشيدون بموقفه المشروع، ويثمنون تمسكه بالضوابط، ثم يبدون اختلافهم المعتبر معه، وإنما يعمدون إلى التجهيل والاستخفاف. ورجل يؤثر السلامة، ويغلّب جانب الإبقاء على قنوات الاتصال وجسور التواصل، لا يريد أن يطرح سمعته للعلك الرخيص، ولا يريد أن يفقد العلاقات الطيبة من نظرائه، وحتى لو تحامل على نفسه، وأجرى سفينه، فإن بعض الأعمال لا تمتلك العمق القادر على تمكينه من التحرك بحرية، لأنها مستنقعات ضحلة موحلة. وبعض الأقلام طويل الشباة، يحتاج إلى أعماق تمكنه من التحرك بحرية، ومن قصد البحر استقل السواقيا، والناقد المعياري الجاد أو اللغوي المتمكن لا يجد ما يحمل قلمه عليه، فيعف عن ممارسة النقد، وهذه التراجعات الاختيارية أو الاضطرارية جعلت المشهد دولة بين المتقارظين والمتقايضين المتلاسنين والمتشايلين، ممن لا يحسنون إلا تبادل أنخاب الثناء، أو التنابز بالألقاب. وفي هذا إضاعة للنقد والأدب الحقيقيين، وتشويه متعمد لسمعة المشهد النقدي، وكم كنت أتمنى من كل الأطراف مجافاة الإقصاء والتهميش، وتفادي تبادل الاتهامات الشخصية. وأذكر في هذه المناسبة أنني كتبت مدخلاً تاريخياً وصفياً للإبداع السردي المحلي، وجعلته فيما بعد مقرراً دراسياً وفصلاً من كتاب مخطوط، وحاولت بجدية تفادي التعميم ومجانية القول، ومع ذلك لم يعجب ما ذهبت إليه طائفة من الشباب، وبخاصة من كانت لهم محاولات سردية، لا تستحق الإشارة فضلاً عن الإشادة، وإن كانت بعض تلك الأعمال تنطوي على مؤشرات واعدة. وايم الله إنني لم أدخر وسعاً في الإنصاف، وليس رهاني على التألق، ولكنه على الصدق وتوخي الحق. ومن بعد هذا تناولت (النقد البنيوي للرواية) متخذاً ناقدين مغربيين مجالاً للنقد التطبيقي، ونشرت الدراسة في خمس وثلاثين حلقة، واجتهدت ما وسعني الاجتهاد في الممارسة التطبيقية، والمؤسف أن هذه الدراسة هي الأخرى لم ترُق لآخرين من الدارسين والكتبة، ولم تواجه بالنقد الموضوعي، وتقصي الإخفاقات المنهجية أو الاستنتاجية المتوقعة، وبهذا الانحياز السلبي حُرم المشهد النقدي من مطارحة الآراء والوصول إلى مستقر الحق، وإذ لا أقطع بصحة ما أقول ولا تألقه، فإنني في الوقت نفسه لا أقطع بخطئه، وإنما هو كما قيل: (قولنا صواب يحتمل الخطأ)، فأين الذين يحقون الحق، ويستدركون الخطأ دون سخرية أو استهزاء؟ وإشكاليتنا أن المبتدئ يريد أن يكال له المدح، حتى لا تبقى كلمة ثناء إلا ساقها المقرظون، كما أن الناقد المادح بمجانية يريد الأشياع والأتباع، وحين يخلو المشهد لهذا وذاك يفقد المصداقية وقول الحق والأهلية، وغرروا بالناشئة وبالمبتدئين، حتى أنسوهم أنفسهم، وإذا استنفد المبتدئ كل المحامد في محاولته الأولى، لم يبق لعمله الثاني ما يمكن أن يقال، وعلى المتردد أن يستذكر ما قيل عن (الحزام) و(سقف الكفاية) و(الفردوس اليباب) و(بنات الرياض) وما سيقال عما يلحق من أعمال. لقد وقعت تلك الأعمال تحت طائلة الجزر والمد، وكلا طرفي الإفراط والتفريط ذميم. ومن طبعي ألا أجازف في الثناء، وإن أعطى المبدع في محاولته الأولى مؤشرات التألق، فلست ممن يستدر عواطف الشدات، ولا ممن يخلط بين النثر العادي والسرد الإبداعي، وأكره ما أكره أن أسمع من يطلق الثناء على كل من لملم نثاره وأخرجه إلى الناس بوصفه عملاً إبداعياً وما هو بشيء، حتى ولو كان للثناء نصيب من الحق، فنحن لا نستفيد من أنخاب الثناء. نحن نريد قراءة لغوية وفنية لسائر الأعمال، تزن الأمور، وتضع يدها على التجليات والإخفاقات. ولكن المجاملات الزائفة، حرمت المشهد من كلمة الحق التي تسهم في تصحيح المسار. ولقد لُمزتُ حين آخذت شهداء الزور والمزايدين وموزعي صكوك النبوغ الزائف، وحين أنفت من تحويل المشهد النقدي إلى جوٍّ كنسي، لا يجود إلا بمنح صكوك التألق كما صكوك الغفران. وعلى الرغم من كل التحفظات والإخفاقات فإن المشهد المحلي يمتلك القدرة على الرهان: إبداعاً ونقداً، وحاجته إلى مبدع يبحث عن مرايا النقد المقعرة، والمحدبة، ليرى نفسه بكل ملامحها. والناقد المنصف لا يمكن أن تعدو عينه عن أعمال روائية محلية لا تقل عما حفلت به المشاهد العربية، ومهما توفر بعض الروائيين المحليين على مقومات الأعمال الروائية فإن قلم الناقد لا يمكن أن يذعن لهم، ولا أن يسالمهم، وليس من مصلحة المشهد المصالحة والتغاضي. وخسارة المشهد في التواطؤ على الثناء والتزكية الزائدة عن حدها لأعمال لها وعليها، إن المبالغة في الثناء تحرم الأعمال مزيدا من التداول النقدي الموضوعي، فالمدح كحز الرقاب، وفوق ذلك فهو قتل متعمد لفعاليات المشهد النقدي، ولعل المتابع لآخر الأعمال المثيرة (بنات الرياض)، يجد أن اللغط حولها لم يدخل في العمق، إذ لم يفكك متعاطي النقد اللغة فيبدي سوآتها، ولم يقوض الدلالة فيفضح انحرافاتها، ولم يشرِّح الفنيات فيكشف عن إخفاقاتها، ومجمل ما يقال ثناء مفرط أو ذم مفرط، ولمّا نزل مرتهنين لثنائية: (الملائكية) و(الشيطنة).
|