Sunday 4th December,200512120العددالأحد 2 ,ذو القعدة 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "الثقافية"

وقفاتٌ في (حديقة غروب) غازي القصيبيوقفاتٌ في (حديقة غروب) غازي القصيبي
أحمد بن سليمان المطرودي

حديقة الغروب
نبدأ من عنوان القصيدة الذي يحوي إشارةً إلى جمالٍ شارفَ على الانتهاء..
فهل جاء العنوان قبل القصيدة..؟
أم بعدها..؟
لقد بدأت الظلمة..
وبدأ ليل هذه الحديقة يعسعس.؛
فقد نَفَقَ صبحُها المتنفِّس..
ما البدائل التي فكّر بها الشاعر؛ لتكون عنواناً..؟
(شمس الأصيل) مثلاً.. ولكنها تتضمن نظرة متفائلة..
هل حاكى السيّاب:
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر..
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر..
ولكن السياب اختار وقت السحر؛ ليبقي مساحة للأمل المطمور في (أنشودة المطر)..
فالعينان تشبهان غابتي النخيل في وقت السحر تحديداً..
فلِمَ اختار الشاعر هذا الوقت بالذات..؟
وهل تختلف غابة النخيل فيه عن بقية الأوقات..؟
إن وقت السحر يتضمن بداية انبلاج الصبح.. الذي يرمز للفرج..،
ففيه تتحسن الرؤية البصرية تدريجاً.. برغم انعدام الرؤية..
وهل تحوي غابة النخيل جمالاً..؟!
ونعود فنقول:
هل تحكَّمتْ (حديقة الغروب) بالنصّ..؟
أم جاءت نتاجاً له..؟
وكيف نربط النصّ بالعنوان..؟
جملةً:
جاءت إضافة (حديقة) إلى (الغروب) غريبةً غير مألوفة..
وهذا طبعي عند بدء المجاز.. أو الاختراق التوزيعي والتفجير الدلالي.؛
فمثل هذه التراكيب تحتاج زمناً.؛ لتحظى بالمقبولية.؛ ولتدخل في التداول..
فهل سيحظى هذا التركيب (القصيبي) بمقبولية فيما بعد..؟
خمسٌ وستُونَ.. في أجفان إعصارِ
أما سئمتَ ارتحالاً أيّها الساري؟
أما مللتَ من الأسفارِ.. ما هدأت
إلا وألقتك في وعثاءِ أسفار؟
أما تَعِبتَ من الأعداءِ.. مَا برحوا
يحاورونكَ بالكبريتِ والنارِ
والصحبُ؟ أين رفاقُ العمرِ؟ هل بَقِيَتْ
سوى ثُمالةِ أيامٍ.. وتذكارِ
بلى! اكتفيتُ.. وأضناني السرى! وشكا
قلبي العناءَ!... ولكن تلك أقداري
(خمس وستون)..
هي الفكرة الرئيسة.. وهي عمره.. الذي قضاه في (أجفان إعصار)..
وهذا يستحضر:
وقفتَ وما في الموت شكٌّ لواقفٍ
كأنّك في جفن الردى وهو نائم..
وكما يقول العامة (اقرب من الخوف تامن)..
المتقاطع.. أو المتشابه مع قول المتنبي:
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا
فأهون ما يمرّ به الوحول..
ولكن..
هل الأعين مغمضة في الصورتين..؟
(أما سئمتَ)..
خطاب يوجّهه لنفسه.. و(الساري) يدلّ على السير ليلاً..؛
فهذا السير الليلي يماثل المزالق التي مرّ بها الشاعر..
واستعمال لفظة (سئمت).. أقوى دلالةً من (تعبت).. اللفظ المرادف..
على أن الحضارة المعاصرة ألغت هذه النظرة لليل.؛ فهو أفضل بكثير من نهار هذه الأيام..
(ما هدأت).. دون انقطاع.. والهدوء لم يحدث.. فكيف بالتوقُّف..!!
(إلا وألقتكَ في وعثاء أسفار)..
وهذا يقودنا إلى:


فصرتُ إذا أصابتني سهامٌ
تكسَّرتْ النصال على النصال..

ولكنّ المتنبي أضاف:


فهان فما أبالي بالرزايا؛
لأنّي ما انتفعتُ بأن أبالي.؛

فهو أكثر تحمُّلاً..
(أما تعبتَ من الأعداء).. إعلان عن التعب والاستسلام.؛
فأين الأصدقاء..؟
وما دورهم..؟
(يحاورونك بالكبريت والنار).؛ فأدواتهم النقدية تقوم على الإقصاء.. ومع هذا سمّاه حواراً..!؟
(والصحب).. جاءت صورة الأصدقاء أطلالاً كمراجيع وشمٍ في نواشر معصم..
فهل ماتوا.. أم غيرتهم الدنيا.. أم أنّ شاعرنا هو الذي اختلف عنهم وأبعد..؟
(بلى اكتفيتُ) جوابٌ لقوله: أما سئمتَ ارتحالاً أيها الساري؟
فماذا يريد بعد هذا الارتحال..؟
(وشكا قلبي العناءَ).. القلب فاعل، والعناء مفعول به..
فلِمَ خصّ القلب..؟
في القرآن الكريم جاء القلب موطناً للعقل.. {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا{..
(ولكن تلك أقداري).. فهل سيواصل..؟


فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم..
وهل يملك النهرُ تغييراً لمجراهُ..!؟
أيا رفيقةَ دربي!.. لو لديّ سوى
عمري.. لقلتُ: فدى عينيكِ أعماري
أحببتني.. وشبابي في فتوّتهِ
وما تغيّرتِ.. والأوجاعُ سُمّاري
منحتني من كنوز الحُبّ.. أَنفَسها
وكنتُ لولا نداكِ الجائعَ العاري
ماذا أقولُ؟ وددتُ البحرَ قافيتي
والغيم محبرتي.. والأفقَ أشعاري
إنْ ساءلوكِ فقولي: كان يعشقني
بكلِّ ما فيهِ من عُنفٍ.. وإصرار
وكان يأوي إلى قلبي.. ويسكنه
وكان يحمل في أضلاعهِ داري
وإنْ مضيتُ.. فقولي: لم يكنْ بَطَلاً
لكنه لم يقبّل جبهةَ العارِ

(أيا رفيقة دربي).. وجّه الخطاب لها دون الصحب.؛
(لقلت: فدى عينيك أعماري).؛ لأنّ العمر الواحد قد لا يكفي جزاءً..
(وما تغيّرت.. والأوجاع سماري
(الأوجاع سماري.. لوازم التقدّم بالعمر..)
ألم تكبر هي وتتغيّر..؟
في عينيه بقيت شابةً كما عهدها في ريعان الشباب..
(منحتني من كنوز الحبّ أنفسها)..
دون منّة أو إشعار بالتفضُّل.؛ فهي كريمة بالعواطف..


ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح..؛

فهناك انتقاء بعد انتقاء.؛ فالحبّ يساوي كنوزاً.. والممنوح أنفس هذه الكنوز..
ورغم أنها تفتش؛ لتنتقي الأبرز.. فما تجده تمنحه منحاً.؛ مراعاةً لمشاعره..
و(الجائع العاري).. من العواطف..


(ماذا أقول له لو جاء يسألني
إن كنتُ أكرهه أو كنتُ أهواه
ماذا أقول إذا راحت أصابعُه

تلملم الليلَ عن شعري وترعاه)..؟!
(وددتُ البحر قافيتي)؛ تأثراً بقوله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}..
(والغيم).. السحب.. (والأفق أشعاري).. عجز عن المجازاة في ظل المعطيات المتاحة.؛ فهي شحيحة لا تكفي للإنصاف والمعاملة بالمثل..
(إن ساءلوكِ).. صيغة (فاعَل) في العربية تقتضي الاشتراك بين اثنين أو طرفين.؛
فمَنْ هم الذين يسألون..؟
وما هدفهم من السؤال..؟
(فقولي: كان يعشقني)..
لِمَ يقترح عليها ما ستقوله..؟
ربما ثقةً بأنها ستقوله.. لا أمراً..
(بكل ما فيه من عنف وإصرار).؛ فما قد يراه الآخرون مناقضاً للعشق..
يراه شاعرنا آليةً مناسبةً لمواجهة مَن يتسلحون بالكبريت والنار..
(وكان يأوي إلى قلبي ويسكنه)..
لفظة (يأوي) معبِّرةٌ تماماً.. وموفقة غاية التوفيق.؛
فهناك إجهاد وقنوط..
وهل يأوي الشاعر أولاً.. ثم يسكن..؟
أم الفعلان المضارعان يحدثان في وقت واحد..؟
قد يكون الانتقال بين الفعلين هادئاً رقيقاً.. لا يشعر الشاعر معه بالانتقال..
فكأنهما يحدثان في وقت واحد..
والشاعر جعل من أضلاعه داراً ينفرد بسكناها ذلك المحبوب..
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}..
(وإن مضيتُ.. فقولي: لم يكن بطلاً)..
وأنا أقول: بل كان بطلاً..
(لكنّه لم يقبَّل جبهةَ العار)..
فهل قبّل غير الجبهة..؟
مدار النصّ يدفع هذا الاحتمال.؛
فما هي جبهة العار..؟
هي التي تورَّط في تقبيلها آخرون.. على الطرف النقيض..
وهم مَن يحاور بالكبريت والنار..


وأنتِ!.. يا بنت فجرٍ في تنفّسه
ما في الأنوثة.. من سحرٍ وأسرارِ
ماذا تريدين مني؟! إنَّني شَبَحٌ
يهيمُ ما بين أغلالٍ.. وأسوارِ
هذي حديقة عمري في الغروب.. كما
رأيتِ... مرعى خريفٍ جائعٍ ضارِ
الطيرُ هَاجَرَ.. والأغصانُ شاحبةٌ
والوردُ أطرقَ يبكي عهد آذارِ
لا تتبعيني! دعيني!.. واقرئي كتبي
فبين أوراقِها تلقاكِ أخباري
وإنْ مضيتُ.. فقولي: لم يكن بطلاً
وكان يمزجُ أطواراً بأطوارِ

(وأنتِ يا بنت فجرٍ في تنفُّسه).. هو في الغروب.. وهي بنت الفجر في عينه..
{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}..
فما وجه الشبه بينها وبنت الفجر المتنفِّسة..؟
هناك براءة أصلية.. غير مصطنعة.؛ فهي فتيّة تقابل ذا شمس غاربة..
(ما في الأنوثة من سحر وأسرار).. (ما) هنا.. موصولة بمعنى الذي..
(ماذا تريدين منّي؟ إنّني شبح).. إلحاح بالسؤال.. يعقبه إجابة.؛ ليقطعَ السؤال
ومبرراته.. وهو شبح عند نفسه.؛ خلافاً لرؤية تلك الهائمة به..
(يهيم ما بين أغلال.. وأسوارِ).. الهيام يستلزم الضياع.. والحيرة.. وانعدام الرؤية..
في ظل تلك البدائل المتشابهة سوءاً.. الأغلال والأسوار..
(هذي حديقة عمري في الغروب.. كما)..
غروب دائم ملازم.. أم هناك شروقٌ سيأتي..؟
(رأيتِ.. مرعى خريفٍ جائعٍ ضارِ)..
مَنْ رعاه..؟
و(جائع) و (ضار) صفتان للراعي.. أم للخريف..؟
وكيف يكون الخريف جائعاً ضارياً..؟
وكيف توصف الآكلة للأعشاب بكونها ضاريةً..؟
إن كانت النعتان للخريف.. فيعني أنّه سُبِق بصيف حارق.. تلى ربيعاً في الاسم فقط..
وإن كان الوصفان للراعي.؛ فقد تحولت تلك البهائمُ ضواريَ من شدّة الجوع..
(الطير هاجر.. والأغصان شاحبةٌ).. أوصاف الحديقة..
ولكن.. أين كانت الهجرة..؟
و(شاحبة).. لا لونَ لها..
وهل شحوبها هو الذي دفع الطير للهجرة..؟
أم كان ذلك الشحوب مزامناً لتلك الهجرة.. أو تالياً لها..؟
(والورد أطرق يبكي عهد آذار).. تعب وحيرة وتأمل تضمنتها (أطرق)..


أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً
من الحسن حتى كاد أن يتكلّما
وقد نبّه النيروز في غسق الدجى
أوائل وردٍ كنّ بالأمس نوّما..

(لا تتبعيني! دعيني!.. واقرئي كتبي)..
(لاتتبعيني)!..
إلى أين..؟
(دعيني!).. تأكيد ل(لاتتبعيني).. (كتبي).. قصائده..
(فبين أوراقها تلقاك أخباري).. تقتضي دقة في البحث والتحري.. وتتطلب حسّاً
مرهفاً.. لا يتوفر إلا في تلك المرأة.. و(تلقاك).. دلالة على البروز.؛
فبعد البحث والتحري والغموض الموجود في (فبين أوراقها).. هناك ظهور وبيان بعد ذلك الجهد..


(وإن مضيتُ.. فقولي: لم يكن بطلاً
وكان يمزج أطواراً بأطوار)..

تكرار في نهاية كل مقطع.. فما دلالة هذا التكرار..؟
ومزج الأطوار بأطوار أخرى.. دون الوصول إلى الضدية أو التناقص في تلك
الأطوار.؛ فهناك أرضية - ربما كانت خافية - تنتظم هذه الرؤى..


ويا بلاداً نذرت العمر.. زَهرتَه
لعزّها!... دُمتِ!... إني حان إبحاري
تركتُ بين رمال البيد أغنيتي
وعند شاطئكِ المسحورِ.. أسماري
إن ساءلوكِ فقولي: لم أبعْ قلمي
ولم أدنّس بسوق الزيف أفكاري
وإن مضيتُ.. فقولي: لم يكن بَطَلاً
وكان طفلي.. ومحبوبي.. وقيثاري
يا عالم الغيبِ! ذنبي أنتَ تعرفُه
وأنت تعلمُ إعلاني.. وإسراري
وأنتَ أدرى بإيمانٍ مننتَ به
علي.. ما خدشته كل أوزاري
أحببتُ لقياكَ.. حسن الظن يشفع لي
أيُرْتَجى العفو إلاّ عند غفَّارِ؟

(زهرتَه).. بدل اشتمال.. أو بعض من كل.. والمبدل منه العمر..
(لعزِّها!... دمتِ!... إنِّي حان إبحاري).؛ كل ما سبق من حياته لم يكن إبحاراً.؛
فليقم بدوره - تالياً - غيرُه..
(تركتُ بين رمال البيد أغنيتي)..
عموم التجرِبة.. حتى لا يصل إليها إلا المتفاعلُ القادرُ على مواصلة المسير..
(وعند شاطئك المسحور.. أسماري)..
هل الشاطئ ساحر.. أم مسحور..؟!
(أسماري).. في الليل.. بينما جاءت (أغنيتي) نهاراً..
كما جاء الشاطئ المسحور في طرف مقابل لرمال البيد.. يحتضن تجرِبةً مقابلةً للأغنيات
**
وبين هذين المتباعدين مكان تجارِب متباينة خاضها الشاعر.. وتعثَّر في وحولها.. وربما
كان المراد في منطقة وسط بين رمال البيد، والشاطئ المسحور.. لا في أحد الطرفين..
(إن ساءلوكِ فقولي: لم أبعْ قلمي).. وفعلها آخرون مقابل أثمان متفاوتة..
وكلها ثمنٌ بخسٌ..
وأسند الخطاب له.؛ اهتماماً بهذه الجزئيّة..
ومَنْ فعل هذا الفعل هو مَنْ قبَّل جبين العار..
(ولم أدنِّس بسوق الزيف أفكاري).. كثرة.. ورغم الكثرة المتضمِّنة ضغوطاً لم يستجبْ لها.. ومَنْ فعل هذا يمتلك فكراً مرَّ به على هذا السوق..
أمّا مَنْ لا يمتلك فكراً.. فربما كان ساكناً بهذا السوق.. لا مارّاً به..
(وإن مضيتُ.. فقولي: لم يكن بطلاً
وكان طفلي.. ومحبوبي.. وقيثاري)..
قفلةٌ متكررة.. صغير.. مماثل في السن.. مطرب..
فهل تحتاج أن تكون طفلة أحياناً.؛ تقويةً للتفاعل والانسجام..؟
والقول المتكرر تقوله لنفسها فقط..
(وأنتَ أدرى بإيمانٍ مننتَ به).. الخطاب لله..
(عليَّ.. ما خدشته كلّ أوزاري).. دعاء في سياق الإخبار..
(أحببتُ لقياكَ.. حسن الظن يشفع لي أيرتجى العفو إلا عند غفّار).. تصريح.. ورغبةٌ في الموت.؛ فهناك خمسٌ وستون عاماً أثقلت كاهلَه..
فهل يخشى أن يردَّ إلى أرذل العمر..؟
وخروجاً عن أجواء النصِّ.. نأمل - لغازينا - أن يبقى غازياً..
وأن تكون تلك ومضةً عابرةً.. لا بؤساً مهيمناً..

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved