خسر ديوان العرب منذ يومين شاعراً كبيراً من شعراء العروبة والإسلام، ممن أطربنا بكلماته، وعبّر بشعره عن همومنا وقضايانا على مدى نصف قرن مضى.. وبذلك تكون واحة الشعر قد فقدت مصدراً هاماً من مصادر ثرائها وعطاءاتها في مجال ما هو موزون ومقفى من الكلام الجميل، بوفاة الشاعر الكبير محمد العبدالله المسيطير. فقد كان محمد المسيطير - رحمه الله - شاعراً مطبوعاً، يرسل أنغامه المثيرة بلا تكلّف، ويكتب أشعاره الجميلة بأسلوب ينم عن ذائقة فنية راقية بسبب ما كان يتسم به شعره من خيال خصب وصور رائعة ورؤى متجددة.. لكن أن يغيب عن دوحة الكلمة الشاعرة والنغم الجميل مَن هذا عطاؤه وتلك علاقته مع الكلمة المموسقة والخيال الواسع، فما من شك أن وفاته تعد خسارة حلّت بهذا العالم السحري الذي تعبر عنه قصيدة من هذا الشاعر أو ذاك. كانت القبيلة - منذ الجاهلية - تحتفل بمولد أي شاعر من بين أفرادها، وما زال للشاعر وهجه وحضوره والاهتمام به منذ ذلك الحين وإلى اليوم، ما يعني أن وفاة شاعر كبير في الزمن المعاصر كمحمد المسيطير، إنما هو حدث غير سار وخسارة قد لا تعوض.. فقد ظلّ هذا الشاعر - وإلى أن وافاه الأجل المحتوم - وفيّاً لهموم أمته حريصاً على خدمة قضاياها بما كان يكتبه من أشعار، وكان في كل هذا صاحب مبدأ لا يحيد عنه أو يتخلى إلى غيره، بل وما كان في أي يوم - وفي جميع قصائده - متزلفاً أو متكسباً من شعره. ومن يقرأ قصائد محمد المسيطير يلمس فيها كم كان شديد الحرص على عدم الوقوع في فخ ما قد يبعده عن توظيف شعره لمصلحة وطنه وأمته.. فقد حرص على أن ينأى بأشعاره عن كل ما قد يشوبها من تأويل أو تفسير أو استنتاجات - وإن كانت في غير محلها - خشية من أن تضعها مثل هذه التكهنات في الموقع الذي لا يخدم بها من خلال شعره الأهداف التي كتب من أجلها ما كتب من أشعار. ومحمد المسيطير لم يكن شاعراً فحسب، ولا كان كاتباً فقط، وإنما هو رجل تعليم وتربية، تولى فيها مسؤوليات قيادية كبيرة، ومن زامله أو تتلمذ على يديه يذكره بالخير ويتحدث عنه بما هو جدير به من تقدير.. ورحلته في الحياة - مع تميّزه - لم تكن مفروشة بالورود، فقد كان عصامياً وطموحاً، تغلب على ما واجهه - كشأن غيره - من تحديات بالصبر والأمل الذي ليس له حدود. يصنف شاعرنا كأنيس للمجالس، فهو صاحب طرفة، ورواية مؤنسة، ساخر إذا تكلم، وناقد اجتماعي حاد عندما يكون هناك ما يستفزه للتعليق، يبوح بما لديه من آراء عندما تقتصر جلسته على عدد محدود من الناس الذين يرتاح لهم، ويعرض عن ذلك حين يضم المجلس خليطاً ممن لا يعرفهم أو لا يرتاح إليهم.. انصرف إثر انتهاء علاقته بالوظيفة الحكومية إلى العمل بالقطاع الخاص كرجل أعمال، وتنوعت أعماله من الفندقة إلى المطابع إلى غيرها، وظل عمله في المجالات التي طرقها محدودة النجاح، لكنها أغنته عن طرق باب الوظيفة من جديد سواء الحكومية أو الخاصة منذ انتهاء عمله كمدير للتعليم في محافظة الرس. وعندما اتصل بي أكبر أبنائه ينعي إليّ وفاة والده، كدت لا أصدق خبراً، فقد كان وقعه شديداً على نفسي، فيما كان ابنه يتحدث إليّ بصوت حزين تكاد أن تخنقه العبرات، مع شيء من ارتباك شديد منه وذهول شديد مني.. وككل الأخبار غير السارة التي يفاجأ بها المرء، فقد تأثرت لوفاة الشاعر محمد المسيطير، وصدمت لأنّ شاعراً كبيراً سوف لن نقرأ له جديداً بعد اليوم، وسوف يبقى مكانه شاغراً إلى أن تلد القبيلة مَن هو بمثل ما كان عليه المسيطير وأفضل، وعندها يفترض أن تقام للمناسبة الاحتفالات والليالي الملاح مثلما كان الأقدمون يفعلون. رحم الله الفقيد، وأسكنه فسيح جناته، وعظم الله أجر زوجته وأبنائه وبناته وأسرته، وجبر مصيبهم.. و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
|