ثقافة الهزيمة وهزيمة الثقافة.. جاء عنواناً لمقال الأستاذ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ المنشور في (الجزيرة) بعددها (12071) الصادر يوم الأحد 13 رمضان 1426هـ، الذي ناقش فيه مسألة (الهزيمة الحضارية)، وموقف المغلوب من حضارة المنتصر بين ظاهرتين، الأولى الإذعان الكامل للهزيمة، والأخرى الرفض الكامل لها، وذلك عندما استشهد في فاتحة المقال بشعر أبي القاسم الشابي، مشيراً إلى أنَّ الشاعر يعكس حالة من حالات الهزيمة، التي هي في أساسها (هزيمة معنوية) تتجلى بهزيمة الإنسان في ثقافته ومعرفته وتردي انتاجه المعرفي والاقتصادي، ما جعله عالة على منتجات الآخر (العدو)، فكانت النتيجة ان تمكن هذا الآخر من ان يحتله ويستبيحه، فالمهزوم (المغلوب) حسب البناء الفلسفي لهذه الهزيمة لا يعرف إلا العنف مقابل العنف أو القوة أو الإرهاب. لذا يرى الكاتب أنَّ الخروج من هذه الهزيمة يكون بأن تعيد الأمة المتخلفة النظر إلى ذاتها وإلى نقد أسس ثقافتها من جديد وبموضوعية؛ لأنها ان لم تفعل فسوف تبقى أمة مهزومة تعيش على فتات الآخرين، مستشهداً بذلك بدولة الصين الشيوعية التي لم تقف عند ماضيها وتاريخها أو تتشبث بعراقة حضارتها؛ كون هذه الحضارة لم تمنع عنها غزو اليابان، بل - أي الصين - قامت باستيعاب (حضارة المنتصر) الغربي، فحققت نمواً اقتصادياً وأصبحت من أعظم الدول وصارتْ نداً للغرب، بعدما استوعبت عوامل حضارته. في مقابل ذلك - كما يقول الكاتب - نكتشف أنَّ العالم العربي وبعد 38 عاماً من فضيحة (حرب النكسة) لم ينفع لسان الضاد وعصبيات عدنان وقحطان في إقالته من عثرته الحضارية، حيث تعيد له سالف قيمه المندثرة، وتنتشله من هزائمه.. ربما - على حد قوله - لأننا أمة شعر لا أمة فكر. هنا أقول: لأن الخلاصة في آخر مقال الأستاذ محمد آل الشيخ، فستكون البداية منه في بناء تعقيبي أو ردي إن شئت، فمن الطبيعي ان تستمر هزائمنا أو أن تتواصل عثراتنا الحضارية، إذا كان من ينادي بخلاصنا من مأزقنا الحضاري أو يحاول تلمس دروب التصحيح لواقعنا، هو أول من يتأرجح بين (نسف) تاريخنا وطمس حضارتنا ومعها أسباب عزتنا، وتصويرنا بأننا أمة شعر لا أمة فكر، وبين (دعوة) الارتماء في حضن الحضارة الغربية، مستلهماً التجربة الصينية؛ لأن ذلك ما يخرجنا من هزيمتنا المعنوية ويرفع عن أمتنا بصمة الامة المتخلفة، خاصة عندما ننقد أسسنا الثقافية وننظر لذاتنا بموضوعية.. ولك ان تلاحظ الرابط بين زعم الكاتب اننا (أمة شعر لا فكر)، مع ان العالم شهد على حضارتنا ونهل منها لمدة تزيد على ستة قرون، وبين تجربة الصين التي تنكرت لحضارتها واستبدلت بشيوعيتها حضارة الغرب. يتبع.. بل نحن أمة فكر حضاري محفوظ بحفظ الوحي الرباني وهذا ما يدل على أن الكاتب لم يفهم طبيعة هذه الأمة وخصوصيتها الحضارية عن أمم الأرض؛ كون تشخيصه لمشكلتها الحضارية القائمة وترديها الكوني جاء مقلوباً، وهو ما جعله يعتقد أن هذه الأمة مهزومة معنوياً، وهذا غير صحيح؛ فالهزيمة المعنوية بالنسبة لأية أمة لا تكون في هزيمة ثقافتها أو معرفتها؛ كون الثقافة تتجدد والمعرفة تتراكم، إنما هزيمتها في الاختراق الفكري من قِبَل عدوها لفكرها وأساسها العقائدي، وتدمير منطلقاتها الدينية وخصوصياتها الحضارية وقيمها الإنسانية تحت مطارق تيارات العدو الفكرية ومذاهبه الفلسفية، وهذا لم يحدث؛ فلا زالت الأمة، بالرغم من كل التيارات والمذاهب الغربية العاتية عليها، تملك جوهر فكرها المستمد من إسلامها، المحفوظ بحفظ وحي ربها، وهذا سر بقائها وعدم ذوبانها في أمم أخرى، فهي كالمصاب بالداء والدواء معه لم يصل إلى فيه. وعندما أقول إن الكاتب لم يعِ مشكلة أمته، فقاس وضعيتها بأمم أخرى، واستلهم الحل من تجارب دول سلكت درب الحضارة الغربية تحت ما يسمى (الاستيعاب) الحضاري؛ فلأنه غفل عن أن أمته أمة رسالة كونية خالدة، وان في ثنايا هذه الرسالة كل اسباب القوة والعزة وعوامل النهوض والتفوق ايضاً، بيد ان هذه الأمة التي تملك بين يديها مفاتيح السيادة الحضارية قد تخلت عنها، عندما عمدتْ إلى اقتفاء آثار الأمم الغالبة، ليس فيما يدخل بدائرة (المشترك الانساني) من صناعة وعلوم وطب وغيرها وهو أمر مطلوب، إنما فيما يتعارض مع (الخصوصية الإسلامية) للأمة من افكار؛ لذلك جاء تشخيص الاستاذ آل الشيخ لمأزق أمته الحضاري (مقلوباً في حقيقته)؛ فالمشكلة ان الامة اخذت من الغرب واقتفت أثره في المذاهب والافكار والنظم الاجتماعية السلبية، وتركت ما بين يديها من عوامل النهضة واسباب النصر والتمكين، التي حققتها عبر تجربتها التاريخية الحضارية الفريدة، فكانت النتيجة حالها القائم، وهذا ما يجب النظر له ونقده في واقع الامة لمعرفة ابعاد هزيمتها التاريخية، وليس كما يدعو له الكاتب بأن ننقد أسسنا الثقافية، التي انتجت تلك الحضارة العريقة؛ لأني لا أشك في أنه يعي ما هي أسسنا الثقافية، التي هي في حقيقتها قيم الإسلام وأفكاره وتعاليمه وأحكامه ضمن إطار (شريعته ومنهجه) بالنسبة للكون والحياة. أما التجربة الصينية فليست مقياساً؛ لأن هناك دولاً أخرى استوعبت حضارة الغرب، بل ارتمت في أحضانها معلنة القطيعة مع دينها وحضارتها فكانت النتيجة انها لم تستحق ان تدخل في قائمة الدول المتقدمة، فضلاً عن أن تكون في ذيل القائمة، كمثال تركيا والفلبين، بينما حققت (اليابان) معجزتها الاقتصادية دون ان تتنازل عن موروثها الحضاري أو تتنكر لتاريخها.بعد كل هذا ألا يُعتبر حديث الكاتب محمد آل الشيخ إذعاناً للهزيمة الحضارية، وهي ظاهرة أشار إليها في منتصف مقاله تقريباً؟ وهي تعكس مواقف كثير من الكُتّاب، كما أنها دليل واقعي على أن تردي الأمة الحضاري شامل.
محمد بن عيسى الكنعان |