لا تزال قصة حنظلة في أذهاننا ماثلة، تؤثر فينا شئنا أم أبينا، بغض النظر إن كانت إسطورة تُحكى أو قصة تُروى أو حقيقة وقعت وتناقلها الرواة والمؤرخون عبر الأجيال، هذا التأثير يأتي في المقام الأول من حبنا وتعلقنا واعتدادنا بقيمنا العربية الأصيلة وعلى رأسها الوفاء الذي جاء الإسلام السمح وشدد عليه وحث المسلمين على الالتزام به في أفعالهم وأقوالهم. ولعل الوفاء من أكثر الصفات التي دارت حولها الأحداث في التاريخ العربي منذ عهد الجاهلية وحتى الآن، بل إن قيمة هذه السمة عند الإنسان المسلم العربي جعلته يبحث عنها حتى في الحيوانات من حوله، وجعل من الكلمة مدار المدح في الشعر العربي قديمه وحديثه. هذا الكلام أورده بعد أن سرت الفرحة في قلبي وجوارحي، وسافرت في مشاعري ودموعي، بعدما عايشت لحظات سمو نفسي ووفاء من إحدى بناتي الطالبات اللواتي تخرجن في جامعة الملك سعود، وكان لي شرف تعليمهن، والإسهام في بناء عقولهن وقلوبهن. هذا البناء أثمر عن مواطنة سعودية منتمية وفيَّة، واسمها الحقيقي وفاء. وفاء واحدة من آلاف الطالبات المنتميات للوطن المحبات لمعلماتهن، والنازعات للخير، بعد تخرجها انقطعت أخبار وفاء لفترة ليست بالقصيرة- كذلك طبع الكثير من السعوديات ممن تستحوذ عليهن شجون وشؤون الحياة- غير أن وفاء خدمتها الصدفة للتواصل مع ذاتها الوفية، وهذه المرة عندما التقيتها بعد رحلة عمرة كريمة في رمضان، حيث لمست مدى لهفتها بعدما عرفت أنني الجالسة إلى جانبها في الطائرة. كنت أجلس وإلى جانبي أحد الإخوة المسافرين، وعلا صوت رافض لفكرة جلوس امرأة جنب رجل، واستؤذنت في أن أذهب لمشاركة امرأة أخرى المقاعد بعدما رفض الرجل إلى جانبي التنحي لجلوس امرأة أخرى مكانه وحل الإشكال القائم في مكان آخر في الطائرة مما اضطرني إلى الذهاب للاطلاع على حقيقة المشكلة، فإذا بامرأة تندفع نحوي بذراعين مفتوحتين وتعانقني بلهفة وحميمية. كان الخمار يحول دون معرفتي لها، فجلست إلى جانبها، وعرفتها فقد كانت وفاء طالبة الأمس أمامي على مقاعد الدراسة أم الوليد اليوم إلى جانبي في الطائرة بعد رحلة عمل وعمرة. نقلتنا أحاسيس ومشاعر اللقاء، من لحظات الترحيب وبث الشوق إلى الحديث عن فواصل الحياة العملية والأسرية؛ وازدهيت بالنجاح الذي حققته وفاء في حياتها. مثلما التقينا في الجامعة أستاذة وطالبة، وفي الطائرة أستاذة وخريجة، نلتقي الآن في محطة من محطات الخير، في مؤسسة الوطن الخيرية للرعاية الصحية المنزلية، بعدما انضمت وفاء إلى أسرة الخير للعمل في المؤسسة الخيرية. ليس هنالك أجمل من أن تتعهد الغراس حتى تنمو وتزهو بخضرتها إلى أن تثمر فتمتلئ فخراً وكبرياءً بهذه الثمار، وكم أمتلئ فخراً بوفاء.. وفاء الطالبة المتميزة.. وفاء الخريجة المقبلة على الحياة.. وفاء العاملة للوطن المنتمية له.. وفاء المتطوعة للخير المعطاءة له.نعم لقد باعدت الأيام وشجونها بيني وبين وفاء لكن الخير جمعنا معاً في محطة الخير، التي أسهمت وفاء التواصل من خلالها، وفاء بدأت مرحلة الخير بصندوق أرزاق الخير في رمضان للمرضى في الرعاية الصحية المنزلية، وتبعتها.. كسوة العيد لكل المرضى في هذه المؤسسة الوطنية للرعاية الصحية المنزلية، الذين يزيد عددهم على (600) مريض ومريضة. وعلى هذا الدرب يزداد التواصل ويزيد العطاء، ويسمو الوفاء، ليذكر الجميع أن بيننا وفي مجتمعنا السعودي المسلم العربي فئة من المحتاجين تنتظر مزيداً من الوفاء.. الذي ضربت فيه وفاء الحكير مثلاً يُحتذى. وفاء اليوم تذكرني بوفاء الأمس (أقصد وفاء التويجري) التي لا تزال تفي بعطائها وجهودها. هكذا تتكرر صور العطاء النسائي في المجتمع السعودي، وتتقدم امرأة واحدة لترسم أكثر من ستمائة بسمة على شفة مريض أو مريضة، في الوقت الذي لا يزال هناك مَنْ يقف على منابر الخطابة في كل مكان لينتقصوا من قدرة المرأة السعودية على العطاء، ومن مكانتها في ميدان العمل في الحياة، والنظر إليها فقط من كونها أنثى تجمع في البيوت وتؤمر صباح مساء بالاختباء عن عيون الآخرين، والقناعة بما (قسمه) لها البعض من وظيفة في هذه الحياة لا تتجاوز أنوثتها.. وتاليتها؟!!
فاكس2056900 |