أسعدتني الظروف حقاً للحضور والمشاركة في الملتقى الذي أقامته مؤسسة الفكر العربي حول التعليم العالي في الوطن العربي والذي أقيم في بيروت خلال الفترة من 28 سبتمبر إلى 1 أكتوبر. وبادئ ذي بدء، ودفعاً لأي التباس، أو أي تأويل يتكئ على الظن - حسن أو ساء - دعونا نسجل إشادتنا - غير المتحفظة - على المبادئ والأسس التي جعلت الأمير خالد الفيصل يقوم بهذه المبادرة الشجاعة والمسؤولة، التي تعكس وعياً ساطعاً، ولكنه غير مستغرب على من استطاع أن يجمع بين ضرائر لا يطقن بينهن جمعاً، أعني مسؤولية الإمارة التخططية والتنفيذية، والشعر والتشكيل المحلقين بأجنحة الخيال التي لا تحدها حدود، ولا يسعها أفق. أقول هذا مضطراً بسبب الاجتهادات غير الموفقة في تأويل ما كتبت من قبل عن أداء المؤسسة، رغم أنني أشدت بالفكرة، وكنت أدرك - مثلي مثل أي صاحب عينين - مدى وعمق دلالاتها. ولكن دعونا مرة أخرى نشير - أو نومئ - إلى أهم هذه الدلالات. إنها باختصار شديد تتمثل في الاستجابة العملية والشجاعة لمشكلة مزمنة ظلت تعاني منها المجتمعات العربية، لا الفكر العربي وحده، وهي عدم فاعلية مؤسسات المجتمع المدني، بل وغيابها التام، أو تغييبها، فالأمر سيان. لقد ظلت الدولة العربية الحديثة، رغم أخذها بالكثير من نظم الدولة الغربية كما لو كانت طائراً يحلق بجناح واحد، وهو جناح الدولة الرسمي، وكان من المؤمل أن تقوم الانتلجنسيا وهي الطبقة المستنيرة في هذه المجتمعات أن تلعب دورها التنويري، ولكنها أثرت طريق السلامة بدلاً من أن تناضل لإرساء قواعد مؤسسات المجتمع، ولكنها اختارت دوراً آخر، وهو أن تعيش طفيلية على جناح الدولة الرسمي، تضع له أيدولوجيته، وتضفي عليها هالات زائفة، وتبرر للسلطة الرسمي ومسؤوليها الأخطاء، بل وتعمل فكرها لجعل هذه الأخطاء كما لو كانت إنجازات وإعجازات. ورغم أن البعض كانوا يستشعرون عمق هذا التناقض في بنية الدولة العربية الحديثة، ويستشعرون مدى فداحته، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئاً عملياً لحل هذه المشكلة، والآن خذ لديك فكرة مؤسسة الفكر العربي مثلاً. هذه الفكرة أطلقتها جامعة الدول العربية، إلا أن الفكرة ماتت - أو وئدت ولا فرق - قبل أن تولد، وتستطيع بالطبع أن تخمن الأسباب وتنوعها، فلربما عجزت الجامعة عن وضع الفكرة موضع التنفيذ لقصور ذاتي فيها هي، ربما السبب يرجع إلى ترهلها، أو ربما الدول الأعضاء - أو قل الحكومات الأعضاء - لم تهضم الفكرة لسبب أو آخر، أو ربما هي ضد الفكرة من أساسها. على كلٍّ، وأياً كان السبب أو الأسباب ماتت الفكرة قبل أن تولد، إلى أن قيض الله لها الأمير خالد فأعاد الحياة إلى عروقها ووضعها موضع التنفيذ. وثمة شيء يثير التساؤل في هذا، فالأمير خالد بحكم موقعه الاجتماعي ينتمي إلى الأسرة المالكة، فهو أمير ابن ملك، ثم هو بحكم موقعه الرسمي (حاكم) لمنطقة عسير، ينوب في ذلك عن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - ثم عن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - أطال الله عمره - فكيف يستقيم هذا مع ما ذكرناه قبل قليل؟.. أعتقد أن حل هذا الذي يبدو تناقضاً في ظاهره يرجع إلى سببين: - أولهما طبيعة نظام الحكم في المملكة منذ تأسيسها على يدي المؤسس والموحد لهذا الكيان الملك عبدالعزيز - رحمه الله - وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم فيها، وتفصيل ذلك يحتاج إلى وقفة أطول. - أما السبب الثاني فيرجع إلى تكوين الأمير الشاعر المبدع الذي يصك التخطيط العلمي والتنفيذ العملي في إدارة مسؤولياته الوطني بقدراته الذاتية كمبدع يحاول دائما أن يجسد رؤاه على أرض الواقع. ولا أحد يزعم - لو أنصف - أن الأمير لوحده كان يستطيع أن يجسد ويحقق وجوداً فعلياً لهذه المؤسسة/ الحلم، لو لم يجد حوله من يؤمنون بالفكرة أو يتسلحون بالكفاءة وقوة الإرادة، فيعملون معه يداً بيدٍ على تحقيقها والنهوض بمسؤولياتها. وعوداً على بدء، أعتقد أن هذا الذي قلته كافٍ لتوضيح وجهة نظرنا عن مؤسسة الفكر العربي كفكرة، وعن رأينا في من آمنوا بالفكرة وعملوا على تحقيقها، خاصة في هذا المنعطف التاريخي الدقيق والحرج الذي يمر به الوطن العربي، بل والعالم كله، ويكفي تقريظاً لنبل مقاصد من عملوا على تحقيق هذا الحلم، حتى لا يساء فهمنا مرة أخرى مثلما حدث من قبل من بعض ممن فهموا أننا نبخس الأمير والفريق العامل معه في هذا المشروع القومي الطموح والشجاع، حين تعرضنا لأداء المؤسسة. ولا أظن أن الأمير أو الفريق العامل معه أو المتعاون مع المؤسسة بحاجة إلى التقريظ والهتاف الفارغ، بقدر حاجتهم الى من يتحرى التجربة، سواء بالإشارة إلى الثغرات والهنات وأوجه القصور هنا وهناك أو بإضافة فكرة أو مقترح علمي وموضوعي وعملي يساعد على نمو وتطور المشروع حتى يحقق الأهداف الموضوعة له، ولأنه مشروع حضاري شامل فإنه سيظل مفتوحاً وبلا سواحل تحده، أو حدود تسوره، وأعتقد أن المشكلة تكمن دائماً في (شخصنة) القضايا العامة. فما أن تتصدى لنقد الأداء في مؤسسة ما، حتى ينبري من له علاقة بالمؤسسة ليدحض ملاحظاتك الموضوعية منطلقاً في ذلك من أرضية ذاتية، ثم هو لا يحاول التعامل مع ما تطرحه من أفكار وآراء، وإنما يعمل مبضعه تشريحاً وتنقيباً في ضميرك عن الدوافع الشخصية والنوايا الخفية التي لم تجرؤ على الإفصاح عنها في نقدك. على كل رغم سعادتي بحضور الملتقى الذي عقدته مؤسسة الفكر العربي في بيروت عن التعليم العالي في الوطن العربي، ورغم حفاوة وكرة ضيافة الأمير خالد الفيصل وفريق المؤسسة والعاملين والمنظمون والمشرفون على هذا الملتقى. إلا أن لي عدة ملاحظات أطرحها منطلقاً من إيماني العميق بأهمية الدور النهضوي الذي يجب على المؤسسة أن تقوم به، والتي هي أصلاً مؤهلة له كوادر وإمكاناتٍ. أولاً : يكاد البون يكون شاسعاً بين المأمول من المؤسسة وبين ما هو كائن، وسأستعرض هنا انطباعاتي عن الملتقى حصراً، ويرجع هذا لعدة أسباب أوجزها في التالي: أ - إن الدعوة لهذا الملتقى ركزت على (الرسميين) وأعني بهم التنفيذيين والمسؤولين، إذ أن الأضواء سلطت عليهم أكثر مما سلطته على القضايا التي عقد الملتقى من أجلها، وهذا ما كاد أن يجعل من الملتقى مناسبة احتفالية، وعلى كل فهم، وبحكم مواقعهم الوظيفية يعرفون بعضهم فاكتملت بفرصة لقائهم التي أتاحها لهم المؤتمر الطقوس الاحتفالية للمناسبات الاجتماعية. ب - الأوراق والمحاضرات التي استمعت إليها، أعدت في أغلبها بروح متعاملة مترفعة، تحتشد بالمصطلحات التقنية، ولم تتنازل عن برجها لتطرح رؤى وأفكار لها علاقة تماس مباشرة بالواقع الذي يعيشه التعليم العالي في الوطن العربي، وإذا كان هناك ثمة من تعرض بالنقد للسياسات التعليمية، فإنه لم يناقش تفاصيل الأداء في المؤسسات التعليمية وهدر الإمكانيات الذي تمارسه إدارات هذه المؤسسات، تحت ستار صمت الجهات العليا المسؤولة، الأمر الذي يعني موافقتها الضمنية على هذا الهدر. وأعتقد أن الملتقى كان سيستفيد أكثر لو أنه أتاح لنفسه فرصة الاستماع لإفادات بعض الكوادر التي لا زالت على رأس العمل الجامعي، بدلاً من المخضرمين أو الذين لا زالوا في مواقع المسؤولية بالمؤسسات التعليمية. ج - لا أدري من الذي استن سنة أن يكتفي الحضور بالاستماع للمسؤولين وهم يقدمون أوراقاً لا يمكن أن نطلق عليها بأية حال صفة العلمية، إذ يجلدون الحاضرين بسياط تجاربهم وكأنها فصل الخطاب، بينما في الواقع تعقد مثل الملتقيات لتدارس كيفية الخروج من عنق الزجاجة التي ما أدخلتنا في نفقها المظلم إلا تجاربهم التي يلهبون ظهورنا بها في كل مؤتمر أو منتدى أو ملتقى. د - ولأن هذه كانت هي صفة الأوراق والمحاضرات التي قدمت فإنها جرّت المناقشات إلى فخ مناقشة العموميات السطحية والوعود والمأمول والمرتجى والأمنيات بعيداً عن أي معلومة توضح تفاصيل ومفردات الواقع، أي ما عليه واقع التعليم، ودون وضع تصورات ورؤى علمية مجدولة بالخطوات العملية لإصلاح التعليم العالي، فالمناقشات اكتفت بمناقشة ما طرحه المحاضرون من عموميات هلامية فانساقت المناقشات معها إلى هذا الملعب الهلامي. هـ - وبسبب هذا السور العالي من الخطابات البروتكولية في قاعة الجلسات، كان الحضور يناقشون بحرية وصراحة أكثر القضايا التي تطرحها الأوراق، ولذا كانت النقاشات في أروقة الملتقى خارج الجلسات أكثر حيوية وحرارة وصدقاً وأكثر ثراء، مما يجعلني أجزم بأنها لو طرحت بكيفيتها تلك في الجلسات الرسمية لآثرتها، ولخرج الملتقى بوجهات نظر وتصورات ورؤى وأفكار أكثر فائدة. ثانياً: لقد لاحظت أن أغلب المشاركين في هذه النقاشات والحوارات المثمرة هم من أولئك الذين تبرعوا بالحضور من تلقاء أنفسهم وعلى نفقتهم الخاصة، الشيء الذي يكسف عن مدى اهتمامهم بالقضية المطروحة على طاولة الملتقى، وتواجدهم غير الرسمي أي كمدعوون من قبل أمانة المؤسسة أو لجنة الملتقى يحرمهم من فرصة المشاركة بفعالية، أو يحد من فعالية مشاركتهم.. والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: لم لا تعد أمانة المؤسسة قاعدة معلومات بالمبدعين في الوطن العربي وخارجه من عرب المهاجر والاغتراب في شتى المجالات، بغض النظر عن ميولهم السياسية أو مذاهبهم الفكرية وانحيازاتهم لأيدلوجية للاستفادة منهم في إثراء الحوار في الملتقيات والمنتديات التي تنظمها. وثمة أمر آخر يخص مشاركات المبدعين والمهتمين الذين لا يجدون الوقت الكافي لإعداد طروحاتهم، لذا يتوجب إعلام المشاركين بوقت كافٍ، حتى لا يجدون أنفسهم، وفي ضيق من الوقت يعدون أوراقاً فطيرة شكلاً ومضموناً. ثالثاً: لا يستطيع أكثر الناس تفاؤلاً أن يزعم بأن مجرد انعقاد هذه الملتقيات والمنتديات يكفي لتحقيق التوصيات التي تخرج بها ويذهب كلٌّ إلى حال سبيله لتبقى هذه التوصيات بعد ذلك حبراً على ورق يقبع في الملفات المرصوصة بعناية أرضيفية.. نعم ستظل هذه التوصيات حبراً على ورق لسببين: - أولهما : إنها عبارة تمنيات وأحلام صيغت بشكل إنشائي جميل، ولم تبن وفق تصور علمي واضح يستند إلى معلومات واقعية. - وثانيهما: إنها قد لا تتعرض للمساءلة عما تم منها وأنجز وما ينفذ وينجز، ولمعالجة هذه المسألة أن تسبق المؤتمر أو الملتقى استعراض توصيات المؤتمر أو الملتقى السابق للوقوف على ما تم بشأنها واستعراض الأسباب التي حالت دون تنفيذها ودراسة كيفية معالجة هذه الأسباب في الملتقيات القادمة، وعدا ذلك فإن الملتقيات ستصبح مثل مناسبات الحالمين الاجتماعية، يعقدون جلسة أحلام كل عام ينفضون بعدها إلى لقاء العام القادم، ولا أحد يزعم أن هذا طريق يمكن أن يقود إلى أي مكان. علماً أن المؤسسة سوف تواجه بعد مراحلها التأسيسية، والتي هي ناجحة بكل المعايير تواجه الآن مرحلة أخرى، المرحلة الأهم وهي أن تتحول إلى وظيفة تثقيفية، أي أن تمد ذارعيها إلى مختلف قطاعات المتلقين لرسالتها، أي أن تجعل لها وسائط للاتصال الجماهيري، وهذا يعني انتقالها من مرحلة (الصفوية) يجب أن تنتهي، لكي تخرج إلى الفضاء الرحب وتسعى بين الأزقة وفي الأسواق، وأن تغلق هذه الصالات والصالونات الأنيقة المبخرة، والمغلقة على نخبة ضيقة من الناس. - هذا هو قدرها طالما هي حملت راية التحدي. إلا أن المؤسسة شأنها شأن أي شيء يتصل بضاعة الثقافة والفكر والإبداع تواجه مأزقاً اقتصادياً صعباً. إذ أن المؤسسة تعتمد الآن في اقتصادياتها على رعاية بعض المؤسسات والشركات لفعالياتها، والحال أن هذا مع نجاعته، ليس حلاً على المدى الطويل أو البعيد، وهو أشبه ما يكون بالحقن الوريدية التي تعطى عند الحاجة الماسة والحرجة. مع علمنا التام بأن المؤسسة وإن لم تكن ربحية، إلا بحاجة إلى مصادر تمويل ثابتة وراسخة حتى يتسنى لها أن تؤدي وظيفتها التنويرية والتثقيفية على أكمل وجه. وفي هذا الإطار ثمة أشكال عديدة يمكن أن تقترح للأخذ بأيٍّ منها، أو بها مجتمعة لتحقيق الاستقلال والاستقرار الاقتصادي للمؤسسة. 1- تخصيص دار للطباعة والنشر والتوزيع، تتولى إصدار مجلة فصلية علمية يتناول كل عدد منها نشر فعاليات المؤتمرات والمنتديات والملتقيات وورش العمل التي تقيمها المؤسسة. ب - تتولى إصدار مجلة أسبوعية أو شهرية. ج - طباعة الكتب المؤلفة والمترجمة بشكل دوري شهري في سلسلة تحت عنوان (كتاب الفكر العربي). 2 - إنشاء صندوق تمويل عربي تساهم فيه بشكل رئيسي مؤسسات القطاع الخاص العربية. 3 - مساهمة وزارات الثقافة والإعلام العربية في دعم صندوق المؤسسة ولو بصورة غير مباشرة، مثل الاشتراك في إصدارات دار المؤسسة، والإعفاءات الجمركية لإصداراتها، والمرونة في التصريح أو القسم لدخولها إلى البلدان العربية، وغيرها من أشكال الدعم غير المباشر. 4- إقامة مشاريع ونشاطات اقتصادية ليست ذات علاقة مباشرة بنشاط المؤسسة وفعالياتها الثقافية والفكرية لتقوية بنية المؤسسة اقتصادياً، ويمكن أن يتم ذلك عن طريق المساهمة في المشاريع الكبيرة خارج نطاق نشاط المؤسسة الثقافي والفكري. 5- الاستفادة من الدعم الذي تقدمه صناديق التمويل والمنظمات الدولية مثل اليونسيف والسكان والطفولة وغيرها في القنوات التمويلية، وهذا يتطلب من المؤسسة بأن تضع مشاريع توعوية وتنموية داخل هذه الأطر وتعد دراسات جدوى بالتعاون مع جهات الاختصاص في كل قطر عربي لمعالجة مثل هذه القضايا حتى تضمن دعم المنظمات الدولية ذات الاختصاص بالتمويل. هذه وغيرها وسائل تضمن للمؤسسة أن تقوم بأداء رسالتها على الوجه المثالي من ناحية، كما وأنها من ناحية أخرى تؤمن للمؤسسة استقلالاً واستقراراً اقتصادياً يساعدها على الاستمرار في أداء دورها والنهوض بمسؤولياتها. والله من وراء القصد،،،،
* أكاديمي وكاتب سعودي |