Tuesday 1st November,200512087العددالثلاثاء 29 ,رمضان 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "الرأي"

من وحي رحلة إلى سريلانكا ..منفى الباروديمن وحي رحلة إلى سريلانكا ..منفى البارودي
أحمد عبد الله الدامغ / الرياض

في الفترة ما بين 12 رجب إلى 26 رجب من عام 1426هـ قمت برحلة سياحية برفقة كل من الأستاذ خالد بن عبد الرحمن الهديب والابن عبد الله إلى كل من سريلانكا الشاي ومنفى الأبطال في السابق.
وقد كان دخول الطائرة أجواء سريلانكا في حوالي الساعة السابعة والنصف صباحاً بتوقيت المملكة العربية السعودية، وحينما أعلن الطيار ذلك رفعت ستار النافذة فرأيت الخضرة التي لا ينتهي النظر إلى مداها، فقلت مخاطباً الطيار:


هنا بربك أيها الطيار
أهبط بنا وما بدا المطار

وهنا بدأت الطائرة في الهبوط فرأيت الأنهار والأشجار وجميل صنع الله في تلك الأرض. وأدركت ما للرحلات البعيدة المدى من فوائد يدركها الحس والنظر، وتأكدت لي صحة ما قاله الشافعي رحمه الله في فوائد السفر:


تغرب عن الأوطان في طلب العلا
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج هم واكتساب معيشة
وعلم وآداب وصحبة ماجد

وأخذ شاعر آخر هذه الفوائد الخمس فنظمها في قوله:


سفر الفتى للممالك وديار
وتجول في سائر الأمصار
علم ومعرفة وفهم واسع
وتجارب ورواية الأخبار

وهناك شاعر قديم حصر فوائد السفر في ثلاثة أمور وذلك بقوله:


يزين الغريب إذا ما اغترب
ثلاث.. فمنهن حسن الأدب
وثانية حسن أخلاقه
وثالثة في اجتناب الرِّيَب

وكل هذا وما لم أذكره من هذا القبيل من الشعر يؤكد فوائد السفر والسياحة في الأرض بقصد الاطلاع على المعالم والمجاهل والحضارات المعاصرة وآثار الحضارات القديمة التي تنطق بها معالمها وأطلالها.
ولقد رجعت إلى ما خاطبت به الطيار قبل هبوطنا أرض مطار سريلانكا فوجدته صالحاً ليكون مطلعاً لتسجيل بعض مشاهداتي فكانت هذه القصيدة:


هنا بربك أيها الطيار
اهبط بنا وما بدا المطار
بدت معالم (لسيرلنكا)
وعنها سوف تنشر الأخبار
إني رأيت ما يشوق عيني
فقع هنا لتلتقي الأنظار
بصنع خالق الأكوان ربي
بأرض لا يمر بها غبار
رذاد تضحك الأعشاب منه
وأنفاس الزهور لها انتشار
مغان ترتع الغزلان يها
وبالغناء تسجع الأطيار
بلحن تطرب الآذان منه
بلابلها يناغيها الهزار
ويشجينا بها دوي نحل
يلقنه النسيم والأمطار
وينقل النسيم لكل فج
ما ينشق العريس والعطار
تداخلت صنوف الشم منه
أطايب بشمها نحتار
إذا تنفس الصباح بثت
من زهره وطيره الأسرار
ونبصر الأشجار في تدان
كعاشق لعاشق يغار
أو أنها كجوقة لرقص
يفوح من جيوبها البهار
والنحل في امتصاص الزهر يبدو
كمن لأشهى ما يرى يختار
قطوفها لقاطف تدلت
ووجه الأرض زانه اخضرار
مزارع للشاي ب(نوريليا)
ومصانع لها فيه ابتكار
تجني النساء كل يوم منه
وريقات إذا انبلج النهار
وشلال لشلال يناغي
سحاباً ليس يصبه الإعصار
ترى فيها العذارى مائسات
ما ضارهن الفقر والإعسار
يمشين هوناً دونما استعجال
علا صدورهن الجلنار
بهن الحسن مازجه جمال
وأنس لا يكدره نفار
في مشيهن ما يثير حسا
لشاعر تاهت به الأشعار
نحر لنحر مشيهن صفا
بوصفهن تعجز الأفكار
مجنون ليلى ربما يدعها
وعن تغزله بها يندار
شريفات ولكن ذاك طبع
وبعض الطبع يصحبه اغترار
أظن ذاك ظناً دون علم
وعلم الله دونه الأستار
يبعثن روحاً في رميم قلب
فيسري فيه للصبا تذكار
تعود به إلى ماض بعيد
ويصحبه بعودته استعبار
هوى ينقاد كانقياد ماء
على نهر به ينمو العرار
تناديه الطبيعة.. أن هلمَّ
فيأتي لا يكلفه انحدار
لو كان هذا العصر لي قديماً
لطاب لي بربعها استقرار
فردوس أرض ليس لها مثيل
لا ترتقي لصفِّها الأمصار
ألا يا ليت لي فيها مقاماً
يصاحبني حيائي والوقار
وعفة شربت منها كأساً
رحيق الدين فيه لنا يدار
أسير للتقى من فضل ربي
وينهاني عن الفحش إدكار
ولكن اطلق الخيال فيها
تصاحبه بليلها الأقمار
تركتها وما مللت منها
وسوف لا يملني التكرار
عدني بربك.. عبد الله(2) عدني
بأن لها تُجدَّد الأسفار
وليتك يا أبا فهد رفيق(3)
لتعزف سحر شعرك الأوتار
وترسم صورة توحي بمعنى
أبى عليّ دونها انبهار
فكم أبدعت في نسج القوافي
وعنك ليس ينسدل الستار
تفتش عما كان دق منها
وتبرزه لتسعد الأبصار
ولو رأى الحقيل(4) مار أيت
لصنف ما يكون له اشتهار
وحاط بالأشعار كل معنى
كما يحيط معصماً سوار
فليس كمثله يجيد وصفا
وما يبنيه ليس له انهيار

***


سرنديب بها يُقصي أبيٌّ
تخير بُعدها له الأشرار
تاريخها لبعض القوم بؤس
وعاه في أكنافها الثوار
قد كانت المنفى لكل حر
أبى بأن يذله الفجار
لمحمود بها منفى وسجن
تولى نقله لها الكفَّار
فأوجدوا بفعلهم مكاناً
ما ميزت بمثله الأقطار
مكان ليس به أنيس
وليس للغرب به جوار
كان اسمها في ما مضى (سيلانا)
وب(سرلنكا) انتهى المدار

بقي أن أشير إلى أن سريلانكا كانت تسمى (سرنديب) ثم سميت (سيلان) ثم أصبح اسمها الحالي سيرلانكا.
وفي الفترة الزمنية التي كانت تسمى فيها (سرنديب) كانت فترة حياة الشاعر المصري الشجاع محمود سامي البارودي، ولقِّب بالبارودي نسبة إلى بلده ايتاي البارود إحدى بلاد محافظة البحيرة التي ولد فيها أحد أجداده، أما محمود سامي البارودي فقد ولد في 27 رجب عام 1255هـ الموافق 7 اكتوبر 1839م وفي هذا التاريخ كانت مصر مستعمرة من بريطانيا، ولما شب البارودي وترعرع وتخرج من المدرسة الحربية عام 1270هـ وفي تلك الآونة بدأت الدولة العثمانية تتضعضع وتضعف، وأخذ الانجليز والفرنسيون يغزونها ويستعمرون بلادها، ورأوا من البارودي ما يخيفهم حيث أخذ هو ورفاقه في التحريض على طردهم ولهذا قرر الإنجليز نفيهم إلى سرنديب فحملوا على باخرة رست بهم صبيحة يوم10 من يناير سنة 1883م في (كولومبو) التي هي الآن عاصمة سريلانكا التي تشكل جزيرة في المحيط الهادي، ومما قاله وهو يودع مصر حيث حكم عليه بالنفي الذي بقي فيه مدة تقرب 18 عاماً قصيدة مؤثرة منها(5):


ولما وقفنا للوداع وأسبلت
مدامعنا فوق الترائب كالمزنِ
أهبت بصبري أن يعود فعزَّني
وناديت حلمي أن يثوب فلم يغنِ
ولم تمض إلا خطوة ثم أقلعت
بنا عن شطوط الحي أجنحة السفن
فكم مهجة من زفرة الوجد في لظى
وكم مقلة من غزرة الدمع في دجن
وما كنت جربت النوى قبل هذه
فلما دهتني كدت أقضى من الحزن
ولكني راجعت حلمي وردَّني
إلى الحزم رأي لا يحوم على أفن
ولولا بنيات وشيب عواطل
لما قرعتْ نفسي على فائت سني
فيا قلب صبرا إن جزعت فربما
جرت سُنّحا طير الحوادث باليمن
فقد تورق الأغصان بعد ذبولها
ويبدو ضياء البدر في ظلمة الوهن

وهو في منفاه تتوالى عليه أخبار نعي رفاقه في مصر إلى أن جاء النبأ العظيم وهو وفاة زوجته فأخذ يرثيها بالشعر، ومما قاله في رثائها(6):


لا لوعتي تَدَع الفؤادَ ولا يدي
تقوى على رد الحبيب الغادي
يا دهر فيم فجعتني بحليلة؟
كانت خلاصة عُدَّتي وعتادي
إن كنت لم ترحم ضناي لبُعدها
أفلا رحمتَ من الأسى أولادي
أفردتهن فلم ينمن توجعاً
قرحى العيون رواجف الأكباد
ألقين در عقودهن، وصغن من
در الدموع قلائد الأجياد
يبكين من وله فراق حفيّة
كانت لهن كثيرة الإسعاد

وعطف عليه صديقه يعقوب سامي وحاول أن يأسو حزنه فزوجه من ابنته عام 1890م وينزل بها مدينة (كندى) في وسط جزيرة (سرنديب) ومما قاله من شعر وهو في سرنديب) قصيدة منها قوله:


حزن براني وأشواق رعت كبدي
يا ويح نفسي من حزن وأشواق(7)
أكلف النفس صبرا وهي جازعة
والصبر في الحب أعيا كل مشتاق
لا في (سرنديب) لي خل ألوذُ به
ولا أنيسٌ سوى همّي وإطراقي

وهناك أخذت صحته تتدهور بدءاً بضعف البصر، فعاد إلى مصر في حوالي سنة 1900م ورد إليه عباس أملاكه التي صودرت منه،
وبقي شبه منعزل عن الناس ينقح دواوينه وأشعاره، ويرتب مختاراته من أشعار من سبقوه بمئات السنين إلى أن توفي في 15 من ديسمبر سنة 1904م.
**********
هوامش:
1- ديوان الشافعي ص 41
2- عبد الله هو أكبر الذكور من أبنائي، الذي يحمل درجة البكالوريوس في اللغة الانجليزية
من جامعة الملك سعود.
3- أبو فهد هو الصديق والشاعر الرقيق الشعر محمد الفهد، وقد تمنيت انه كان برفقتنا ليحيط بوصف الرحلة في قصيدة تكون أعم وأشمل من قصيدتي.
4- الحقيل هو الصديق الأديب الشاعر حمد عبد الله الحقيل الذي ألف الكثير من الكتب المتنوعة
وطاف كثيراً من بلاد العالم.
5- ديوان البارودي 4-5.
6- البارودي رائد الشعر الحديث
لشوقي ضيف ص 92.
7- ديوان البارودي 2-101، 100 - 99.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved