عندما يعن لي الحديث عن أي ظاهرة معرفية أو سلوكية، أحاول أن أحرِّر مفهوم الكلمة: لغوياً واصطلاحياً، وأن أتقصّى أمداءها فيما تيّسر من (الحضارات) البادية والبائدة، وأن أستشرف محطاتها الزمانية، إذ لكلِّ حضارة مفاهيمها وشروطها وتحوُّلاتها، بل ربما يكون لكلِّ (مصر) رؤيته، كما المذهب القديم والجديد للإمام (الشافعي) - رحمه الله -، وتحرير أيّ معلومة يُعَدُّ من المقدّمات الصحيحة، المؤدِّية إلى نتائج صحيحة. وإشكاليات المشاهد في اضطراب المفاهيم حول المسمّيات ومقاصدها. وما اختلف المتابعون حول المتداول بين العلماء والفلاسفة والمفكِّرين إلاّ عندما لا يكون تحرير المفاهيم والمقاصد لكافة المصطلحات والظواهر دقيقاً ومحدَّداً، وبخاصة الوافد منها، متى نقل أو عُرب ولم يُترجم. وكلمتا (ترويح) و(تربية) كلمتان عربيتا الأصل والمنشأ، ولكنهما بإزاء مصطلحات غربية مماثلة، قد يؤدِّي هذا التماثل إلى الخلط بين المقتضيات. والمصطلحان أكثر ارتباطاً بالمناهج التعليمية، وإن كان الترويح مقصداً إعلامياً وتربوياً في آن، إلاّ أنّه أكثر لصوقاً بالتربية، والتربية صنو التعليم. ف(التعليم) إيصال المعلومة. و(التربية) تنمية الوعي وتوفير المهارات: الفكرية، والعلمية. فأستاذ النحو يعلِّم الطلبة أنّ الفاعل مرفوع وأنّ المفعول منصوب، وأنّ النواسخ ترفع وتنصب أو تنصب وترفع، وأنّها حروف وأفعال وأسماء، ولكن التطبيق العملي لا يتم إلاّ عن طريق (التربية)، فكيف يستطيع المعلِّم أن يحرِّك المخزون الحفظي، ويحوِّله إلى ممارسة عملية، بحيث يتحدّث الطالب ولا يلحِّن، ويكتب ولا يخطئ، وبحيث يوظّف مكتسبه المعرفي فيما يقول ويكتب ويفعل. وكم من حافظ لفن القيادة المكتوب لا يقدر على ممارستها. وكم من إنسان يحفظ المتون، ولا يقدر على الفهم، ولا يحسن الاستعمال ولا الاسترجاع، حتى لا يقيم كلمة، ولا يستنبط حكماً، وهذا هو الفرق بين التعليم والتربية، والحفظ والفهم، والنظري والتطبيقي. والتعليمُ الحشوي التلقيني يخرِّج حفظةً لا يتمثّلون. و(الترويح) من حيث مدلوله اللغوي لصيق بالمدلول الاصطلاحي، والجذر اللغوي له دلالات متفاوتة، لا مجال لاستقصائها ومنها: الرواح، والمراوحة، والارتياح، والريح، والمروحة، والتراويح، وهي صلاة التهجُّد في رمضان. ومن حيث الاصطلاح: نشاط حركي أو استمتاع سمعي أو نظري يبعث في الممارسين الراحة والأنس، ويعيد نشاطهم الذي فقدوه في جد العمل أو يطرد السأم والملل والقلق الناشئ من الفراغ. وما من عامل جاد إلاّ هو بحاجة إلى الترويح عن نفسه، وفي الأثر:- (روِّحوا القلوب فإنّها تمل كما تملُّ الأجسام)، والترويح يتنازعه القول والفعل والاستماع والمشاهدة والاسترخاء. فالسباحة وركوب الدراجات والحيوانات وسائر الألعاب، وكافة الممارسات، تكون رياضة، وتكون ترويحاً، وقد تكون أداءً وظيفياً. والقصد وحده، هو الذي يحدِّد المقاصد. و(الترويح) مصطلح اجتماعي ثقافي، يكثر تداوله في مجالي التربية والإعلام. ومقاصده الأولى كسب الراحة والسرور من عمل غير إلزامي، عملٍ تهواه النفس، وتميل إليه، عملٍ مفتوح، وليس محدَّداً، إنّه عمل حر ينطلق معه الإنسان وفق إرادته الشخصية. وهناك فرق بين مفهوم الترويح بوصفه ممارسة، ومفهومه بوصفه نتيجة، ومفهومه بوصفه أنماطاً وسلوكيات. والمعنيّون يفرِّقون بين المفاهيم. و(الترويح) يتحقّق باللهو واللعب وبالعمل الجاد، إذا ارتبط بالهوايات الصعبة، كصعود الجبال والممارسات الكشفية والتنقيب عن الآثار والتعرُّف على طبائع الحيوانات والحشرات والزواحف. ذلك أنّ ما تهواه النفس قد يجعل الممارس لأصعب الأعمال وأخطرها في حالة من الرفاهية والراحة، وفي الحديث (أرحنا يا بلال بالصلاة) وهي ثقيلة على المنافقين، ومن الناس من لا يقوم إليها إلاّ وهو كسلان. وحين لا تكون هواية غالبة، لا يتحقّق الترويح إلاّ باللَّهو المباح أو المحظور. وعندما نستدعي كلمة (لهو) قد يثار حولها أكثر من علامة استفهام. ذلك أنّ من اللهو ما هو محرّم، ومنه ما هو مكروه، ومنه ما هو مباح، والفقهاء يختلفون في حدود المباح. ومتعلّق المترخصين قول الرسول صلى الله عليه وسلم:- (إنّ الأنصار يعجبهم اللهو) وحضور الرسول صلى الله عليه وسلم مع زوجته عائشة (رقص الأحباش) في المسجد، وسماعه للشعر المستهل بالغزل، وإحضاره للجاريتين المغنِّيتين لبيت عائشة في يوم العيد. حتى لقد تفاوت موقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع موقف (أبي بكر) و(عمر) رضي الله عنهما، فما أحضره الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة عدّه (أبو بكر) من مزامير الشيطان، و(عمر) حصب الأحباش بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم. كلُّ هذه الممارسات والرخص دليل على أنّ في الإسلام أكثر من فسحة، ومنشأ الخلاف بين المجيز والمانع مراوحة الأحاديث بين الخصوص والعموم، وتحامي الهزل، والإغراق في الورع، وحمل الناس عليه، والأخذ بالعزائم، والتحفُّظ على الرخص، استبراء للدين والعرض، وبين هذا وذاك يدخل الناس في التنطُّع، أو ينفلتون من الضوابط المشروعة. والفقهاء الأصوليون من أهل الاجتهاد يعرفون حدود ما أنزل الله، وموقف البعض من الغناء موقف شديد الحساسية إزاء موقف آخرين من ظاهرية ومتصوّفة. ولسنا هنا معنيين بتحرير الحكم، فذلك يُسأل عنْه أهل الذِّكر، ونحن تبع لهم فيما يقرُّه الشرع. وإشكالية الغناء أنّ الفرق الإسلامية والمذاهب الفقهية تفاوتوا في الأحكام. ف(الجمهور) على التفريق بين المباح والمحظور، و(الظاهرية) على التسوية في الإباحة، وطائفة من (المتصوّفة) يربطونه بالعبادة. ونحن هنا نود الحديث عن المباح من الترويح في كلِّ مجال لا في مجال السماع وحده، لأنّه مجال حساس، والفطر السليمة كما القلوب المستفتاة عن البر والإثم. وحين نعود إلى مفهوم (الترويح)، نجد أنّه بكلِّ صوره نشاط طوعي اختياري، يمارسه الإنسان أثناء الفراغ، أو بعد إنهاك العمل الجاد، وقد يكون جزءاً من التربية والتعليم، ولكنه يؤدّى بطريقة مغايرة، لمجرَّد تنوّع مصادر التعليم. وكلُّ ممارسة طوعية لا بد أن تحدّد دوافعها وأهدافها ومشروعيتها ونتائجها وآثارها السلبية والإيجابية. ومتى أصبحت مشروعة، وكان من الضروري رسم خطط لها، ووضع تصوُّر سليم، يحول دون الفوضى أو الوقوع في المحظور. والخطة والتصوُّر يمكِّنان من الممارسة على ضوء الضوابط الحضارية. ولقد ذهب الدكتور (خالد العودة) إلى اختيار تعريف يشتمل على مشروعية الأهداف والنتائج، فقال:- (نشاط هادف ممتع يمارس اختيارياً بدافعية ذاتية وبوسائل وأشكال عديدة مباحة شرعاً، ويتم غالباً في أوقات الفراغ)، وهذا التحديد مرتبط بالمذهب السلفي الذي ينتمي إليه المعرِّف، إذ كلمة (مباحة شرعاً) تجعل التعريف إسلامياً سلفياً، وليس إنسانياً، وهو ما نجنح إليْه. والعادة جرت عند الحديث عن القضايا المختلَف فيها أن يقال: إنّ الإسلام دين الوسطية، وقد يكون مفهوم الوسطية مؤدِّياً إلى الوقوع في المحاذير، فالبعض يحيل إلى الوسطية ما يراه هو، لا ما يقع ضمن مفهوم الوسطية. واستغلال الخصوصية للرؤى الذاتية انحراف بالمفهوم عن مجاله، ووقوع في المحذور. والبعض حصر الترويح بين مطالب (الروح) و(الجسد)، وآخرون انفتحوا في مفهومه، وجعلوه سبيلاً من سبل الوقوع في الرخص المختلف حول مشروعيتها. والمتحفِّظون الآخذون بسد الذرائع ودرء المفاسد والورع والاستبراء للعرض والدين - على حدِّ قولهم - يتحفَّظون على إطلاقات غير محدّدة، وقد يبلغ بهم التحفُّظ حد التنطُّع، وقضايا المحظور والمباح تحتاج إلى الدقّة. فالمنع والإباحة والتوسُّط رؤى لا يصار إلى شيء منها إلاّ بعد التصوُّر السليم، أو سؤال أهل الذِّكر المشهود لهم بالعلم والورع وفقه الواقع، والناس أوزاع بين العقلانية، والنصية، والهوى، والوقوف عند حدود ما أنزل الله، وقليل ما هم. وكلّما أراد الإنسان القبول بشيء عوّل على قوله تعالى:- {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: 77) وقوله:- {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ}(الأعراف: 32) وأدخل في النصيب والزينة كلّ محظور، وإذا أراد رفض الشيء عوّل على قوله تعالى:- {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}(لقمان: 6)، وقوله تعالى:- {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} (الأعراف: 157) فيدخل في اللهو والخبائث كلَّ مباح. والإشكالية في تحديد (الأنصبة والزينة والخبائث والطيِّبات). ولا يمكن ترشيد الفتيا، وتجنيب الناس مضلاّت الأهواء إلاّ بالرجوع إلى المؤسسات الدينية، ك(هيئة كبار العلماء) و(المجمع الفقهي)، كما لا يجوز لأيِّ مؤسسة أن تبادر إلى الفتيا في النوازل إلاّ بعد التمحيص والتداول والسماع والبحث عن الحق دون تغليب الهوى والتعصُّب المذهبي. ولقد سمعت من يحدِّد الترويح في أربعة أشياء:- - ملاعبة الرجل لامرأته. - وتأديب الرجل لفرسه. - ومشي الرجل بين الغرضين. - وتعلُّم السباحة. وآخرون زادوا:- المصارعة والرماية. لحديث (عليكم بالرمي فإنّه من خير لعبكم)، وحديث مصارعة الرسول صلى الله عليه وسلم. ومصارعة اليوم تختلف عن مصارعة ما سلَف، إذاً هناك لهوٌ مباحٌ ومصارعة مباحة، وتحت اللهو والمصارعة مفاهيم تزل بها الأقدام، وتضلّ الأفهام. وإذ يكون من أوجب الواجبات مراعاة المحاذير الشرعية، فإنّ حفظ الوقت والجهد والمال لا يقل أهمِّية عما سواه، ومع مجمل المحاذير الدينية والدنيوية فإنّ الإنسان بشر، والبشرية لها مطالب مادية، والله يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر. والترويح السليم لا يتحقق إلاّ في ظل التربية السليمة والتوعية الحضارية، فهو رغبة توجّه إليها التربية المتوازنة. وللترويح مجالاته المتغلّبة على الحصر، والعاقل من يزن الأمور، ولا يحمِّل الأشياء ما لا تحتمل، ولا يترك لنفسه الحبل على الغارب. والمتابعون للمداولات التربوية ذات العلاقة بعلم النفس الحديث، يقفون على دراسات موضوعية، حاولت أسلمة العلوم الحديثة ك(علم النفس) و(علم الاجتماع) و(مناهج التربية والتعليم)، والحضارة الإسلامية حضارة شمولية، تضع المعالم في الطريق، وترقب من بعيد مؤكدة على المقاصد والغايات، ولا تحول دون التعالق الواعي مع مستجدات الحضارات، وانفتاحها يدع للإنسان حرية الاختيار ورسم الخطط، ووضع المناهج، فالعقل السليم يميِّز بين الحق والباطل، وهو العقل الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم باستفتائه، وهو العقل الذي أحال إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله (أنتم أدرى بأُمور دنياكم). و(الترويح) إمّا أن يكون مرتبطاً بالتربية، أو يكون عاماً للكافة، ومجيئه في غالب الأمر بعد الجد المرهق أو الفراغ الممل، وقد يبتدره هواة لا ينظرون إلى الجد ولا إلى قلق الفراغ. ونحن هنا نورد الحديث عن الترويح بوصفه الشامل ودوافعه المتعدِّدة، وإن عرَّجنا إلى خصوصية الطالب وحاجته إلى النشاط المفتوح. والراهن العالمي والعربي على وجه الخصوص راهن غارق بالفتن والمغريات ومحكوم، بوسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة. ودعاة السوء ينفذون إلى الأذهان والأفكار والغرائز والشهوات من كلِّ جانب. والذي يجيل نظره أو يلقي سمعه يرى أنّ القنوات الفضائية وأشرطة (الفيديو) ومراكز المعلومات والمواقع المتعدِّدة وثورة المعلومات والاتصالات تعمل على التضليل والإفساد، وتوفِّر المتع الزائفة، ولقد ثبت أنّ فساد الأفكار أخطر من فساد الأخلاق، وظاهرة الإرهاب ناتج الاختراقات المغرضة. والتحذير والمنع ليس حلاً، فكلُّ شاب قادر على أن يدخل على كافة المواقع، وأن يشاهد كافة القنوات، وأن يتصل بكافة مصادر الإفساد الفكري والخلقي، وهو مستلق على سريره أو متكئ على أريكته، وأساليب الحسبة بحاجة إلى مزيد من العصرنة لتواكب المرحلة المعقَّدة. والخطورة أنّ الغزو الفكري محكم ومنظَّم ومتعدِّد القنوات. وعلماء السوء يتخطَّفون الشباب، ويأتونهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم. والشباب في فترة من المراهقة وخلو الأذهان وثورة الغرائز وطغيان المثاليات صيد سهل وثمين. ولأنّ الشباب عرضة للإغواء والاستدراج، فقد عجب الله من شاب ليست له صبوة، وأكدت الأحاديث الصحيحة أنّ الشاب الذي نشأ في طاعة الله يظلُّه الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلاّ ظلّه. وليس أدل على سهولة انقياد الشباب لدعاة السوء من سقوطهم في حبائل الإرهاب، فكلُّ الإرهابيين شباب في مقتبل العمر، ويعاضد قنوات الغزو ومواقع التضليل الإمكانيات المادية التي وفّرت القدرة على السفر والقدرة على إقامة الاستراحات، والتجمُّع فيها، وإضاعة الوقت، ومفارقة الأهل والأبناء، وكلُّ هذه الأشياء تُعَدُّ من وسائل الترويح غير البريء وغير المشروع. وليست كلُّ التجمُّعات، ولا كلُّ الاستراحات موبوءة، ولكن التخلِّي عن صناعة محكمة للترويح تحت أيّ مبرر سيفتح المجال لمبادرات شخصية غير مأمونة، والشباب كما الصيد السابح في الفضاء، وكلُّ طائفة تصوِّبُ آلياتها لإسقاطه في حبائلها. فهل نمتلك آليات منافسة؟ أحسب أنّ المسألة بحاجة إلى مكاشفة.
|