الصوم من أقوى العبادات على تهذيب النفوس والسمو بالأرواح، إذ فيه إعداد للنفوس وتهيئة لها على تقوى الله ومراقبته. والصوم له فضل عظيم، فهو سرٌّ وعمل باطن لا يراه الخلق ولا يدخله الرياء. والصوم يربِّي في المسلمين مَلَكة الصبر والقدرة على قهر النفوس وتعويدها على تحمّل الشدائد ومتاعب الحياة ومصاعبها. ومن الواضح أن هناك علاقة طردية بين شهر رمضان المبارك والاستهلاك النهم، والمرء يندهش من هذا النهج الاستهلاكي المستشري بين أوساط الناس في هذا الشهر الفضيل، فالجميع يسعى بجد في سبيل الاستهلاك والاستعداد له مستسلمين لوسائل الدعاية والإعلان. ميزانية رمضان ومن الأسف أن اعتاد بعض الناس عادات سيئة، ومن ذلك رصد ميزانية مرتفعة للإنفاق الاستهلاكي، فيكون النهار صوماً وكسلاً، والليل طعاماً واستهلاكاً غير عادي. ومن ثم يقع الإنسان أسير دائرة استهلاكية قاسية لا تتركه إلا بعد أن تجرِّد جيوبه وحساباته من آخر قرش، وخصوصاً أنّ هذه الدائرة ليست لها حدود دنيا أو قصوى. بذخ وتبذير إن الإنفاق البذخي في رمضان أمرٌ لا يمكن أن يتسق مع وضعية مجتمعاتنا الإسلامية النامية وما تصنعه ونضيّعه في رمضان هو بكل تأكيد هدر لإمكانات مادية نحن في حاجة إليها. كما أنّ شراهة الاستهلاك المتنامية فينا تدل على مدى التخلّف السلوكي الذي تعيشه مجتمعاتنا وتعكس المسافة المتفاوتة بين المبدأ والفعل، والتي تتسع يوماً بعد يوم. فالإسراف والتبذير في الاستهلاك يعتبر سوء استخدام للموارد الاقتصادية، وهو عمل مذموم ذمَّه الإسلام، حيث وصف الله المسرفين والمبذرين في القرآن الكريم بأنهم إخوان الشياطين. إن المتأمل لصناديق القمامة ليتأكد من أننا في حاجة إلى إعادة النظر في سلوكنا الاستهلاكي باتجاه تعديله لسلوك استهلاكي رشيد. تفريط وإفراط والنصيحة التي يمكن أن نتوجّه بها إلى أفراد المجتمع هي عدم التفريط أو الإفراط في تناول الطعام في ليالي رمضان، والتزام الاعتدال، قال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، وقوله سبحانه أيضاً: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كُلْ واشربْ والبسْ وتصدّقْ ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة)، وقد ورد عن معاوية بن إبي سفيان رضي الله عنه قوله: (كل سرف فبإزائه حق مضيّع). التصدي للشره لقد درجت أمانينا على اغتنام فرصة الصيام لتقويم الروح بفوائد روحية وتقويم الجسد بفوائد جسمية، فهل نتعوّد على اغتنام الفرصة لتقويم اقتصاد الأمة وهو جسمها وروحها من داء عضال هو داء الاستهلاك الدائم من غير إنتاج كاف؟! وهل يكون شهر رمضان فرصة ومجالاً لامتلاك إرادة التصدي لحالة الاستهلاك الشرهة التي تنتابنا في هذا الشهر الكريم؟!
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية |