كنت قد كتبت قبل أربع سنوات مقالة عنوانها: (معركة بدر والثقة بالنصر). وذلك بمناسبة ذكرى تلك المعركة التي وقعت يوم السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من هجرة سيِّد الخلق أجمعين، بنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم وسلَّم. وهي المعركة التي سمَّاها الله - سبحانه - يوم الفرقان. وقد بدأت تلك المقالة بالقول: (تعيش الأمة الإسلامية الآن وسط أجواء مكفهرة. تحيط بها هوج العواصف من أعدائها المتكالبين عليها من خارجها، ويهتز كيانها نتيجة تأثُّر بعض قادتها ومثقَّفيها أنفسهم بأفكار أولئك الأعداء حتى باتوا يردِّدون ما يقولونه أو يكتبونه دون تمحيص. وإذا كان تداعي الأمم عليها كما تتداعى الأكلة على قصعتها قد حلَّ بها - وهو أمر خطير مروِّع - فإن عوامل هدمها من داخلها قد ازدادت وضوحاً، وهي أشدُّ خطورةً وترويعاً. أما عواصف الأعداء الهوجاء من خارج الأمة فتتضح في سرعة تكتُّلها حول محورها المتمثِّل في الدولة ذات الصولة والجولة، التي جعلت من نفسها الركن الشديد والأساس المتين لدولة الصهاينة صاحبة المرتبة الأولى في العالم من حيث الإرهاب. وأما عوامل الهدم الداخلية فيكشفها ما تنشره أقلام، أو تنطق به أفواه، من عجب عجاب، قدحاً بثوابت الأمة، ومدحاً لقيم أعدائها. وإذا كان ذلك هو مستوى الشعور بالألم لديَّ حينذاك فكيف هو المستوى الآن بعد الكوارث الكبرى التي حلَّت بأمتنا خلال السنوات الأربع الماضية؟ وفي طليعة هذه الكوارث الاجتياح الأمريكي المتغطرسُ في أفغانستان، والإرهاب الذي لا يُضاهَى بشاعةً في فلسطين حيث كثَّف الصهاينة إرهابهم، اغتيالاً فظيعاً للشخصيات الفلسطينية المكافحة في سبيل تحرير أرضها واسترداد حقوقها، وتهديم للمنازل والبنية الأساسية، واجتثاث للأشجار، واغتصاب للأراضي، وتدمير للتراث، وما حدث على العراق من عدوان إجرامي نتج عنه احتلال مورست تحت كابوسه أنواع من البطش وأساليب بشعة من التعذيب، ونهب لتراث شاهد على حضارة عمرها آلاف السنين، ووضع أسس ماكرة لتفتيت وحدته وتقسيمه إلى كيانات طائفية وعرقية تأتمر بأمر المحتل وتنفِّذ ما يريد. بل إن عداوة دولة التغطرس الأولى في العالم لأمتنا امتدت إلى أن فرش كونجرسها الطريق إلى رحابه بالورود أمام الشرذمة الحاقدة المخالفة لعموم أقباط مصر كي تعقد مؤتمرها الثاني فيه خلال هذا الشهر المبارك. وطأة ما سبق ذكره ثقيلة على النفس، جارحة للفؤاد، محطِّمة للآمال. غير أن بقية جذوة من إيمان لدى حاملها تحثُّه على أن يستجيب لأمر مَنْ بيده ملكوت كل شيء بعدم القنوط من روحه الكريم، واليأس من رحمته الواسعة. وإن مما يعزِّي النفس، ويخفِّف عنها ما يثقلها من وطأة الكوارث الحاضرة، العودة بالذاكرة إلى رحاب تاريخ تليد يندى بعبق المجد، ويشع بألق العظمة. وفي ذلك العبق، وهذا الألق، يبدو للمتذكِّر الانتصاران العظيمان في معركة الفرقان ببدر، وتحطيم ما كان يعبد من أوثان في بيت الله الحرام يوم فتح تلك الرحاب الطاهرة المطهَّرة. فكيف تمَّ الانتصاران العظيمان؟ معركة بدر الكبرى كان المسلمون قد ذاقوا الأمرَّين من طغاة قريش، وعانوا ما عانوا من ظلمهم، تعذيباً ومصادرة أموال وصداً عن سبيل الله، وتأليباً لمختلف القبائل ضدهم. فكان من عدل الله الحق أحكم الحاكمين أن أَذِنَ لعباده المسلمين المظلومين - وقد تهيأت الأسباب - بردِّ الظلم بكل الوسائل للانتصاف من ظالميهم، ووعدهم بالنصر عليهم. وتمشياً مع التوجيه الإلهي الكريم، وحفاظاً على حقه وحق عباده المظلومين بدأ قائدُ الغرِّ الميامين، نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم، العمل للانتصاف من الظلمة ببعث سرايا تترصَّد قوافل قريش التجارية المتجهة إلى بلاد الشام أو العائدة منها. وكان في ذلك ما فيه من إنهاك اقتصادي للظالمين، وتدريب ناجح للمظلومين على مواجهة أعدائهم. وفي يوم من أيام السنة الثانية للهجرة وصل إلى المدينة خبر مسير قافلة تجارية كبيرة لقريش بقيادة أبي سفيان متجهة من الشام إلى مكة. فندب الرسول، صلى الله عليه وسلم، المسلمين قائلاً لهم: (هذه عير قريش فيها أموالهم، فأخرجوا إليها لعلَّ الله ينفلكموها). وانطلق عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، من المدينة بِمَنْ أمكنه الخروج معه منهم. وكان عددهم لا يتجاوز ثلاث مئة وبضعة عشر رجلاً. ولم يكن معهم إلا فرسان: فرس للزبير بن العوام وفرس للمقداد بن الأسود، وسبعون بعيراً يعتقبونها. وكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعندما جاء دوره في المشي قالا له: نحن نمشي عنك. فقال لهما: ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما. وهكذا تتجلَّى عظمة القيادة، وتتضح روعة التضحية. وأناس يتحلَّون بهذه الروعة وتلك العظمة أنَّى للضعف أن يتسلَّل إلى نفوسهم؟ وأنَّى لليأس أن يخامر قلوبهم؟ كان هدف النبي، صلى الله عليه وسلم، ومن معه من أصحابه الغرِّ الميامين حين انطلقوا بسرعة من المدينة، اعتراض تلك القافلة، التي كان يقودها الداهية أبو سفيان، ولم يدر بخلد واحد منهم حينذاك غير ذلك الهدف. ولو كانوا قد علموا أنهم مقبلون على مواجهة حربية مع كفار قريش لاتخذوا أهبتهم كاملة، وأعدُّوا للأمر عدَّته، ولما كان لمسلم قادر على القتال إلا أن يسارع في الخروج معهم ومضوا في سبيلهم الهادف إلى اعتراض القافلة القرشية لكن أبا سفيان علم بتوجههم إليه، فأرسل إلى مكة مَنْ يستنفر أهلها لينقذوا أموالهم، ولم يكتفِ بذلك - وهو النابه المجرِّب -، بل غيَّر وجهة القافلة نحو ساحل البحر تفادياً لوقوعها لقمة سائغة في أيدي النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه. ولقي استنفار قريش صداه، فخرجت من مكة بقضِّها وقضيضها بطرة مختالة بجيش يزيد على تسع مئة رجل، ومعهم سبع مئة بعير ومئة فرس. وكان أولئك البطرون المختالون يريدون القضاء على مَنْ عزموا على اعتراض قافلتهم، إفناءً جسدياً أو تحطيماً معنوياً لوجودهم في أقل الأحوال. ولما اطمأن أبو سفيان إلى سلامة القافلة، التي كان يقودها بمهارة من خطر اعتراضها، أرسل إلى قادة قريش يخبرهم بتلك السلامة، وينصحهم بالرجوع إلى مكة. فرجع عدد قليل من حكمائهم إليها، وهمَّ من همَّ منهم أن يقتدي بهم فيعود. لكن عنهجية البطر والكبرياء دفعت أبا جهل، العدو الألد للإسلام والمسلمين، إلى أن يقول: (والله لا نرجع حتى نقدم بدراً، فنقيم بها، نطعم من حضرنا، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا تزال تهابنا أبداً وتخافنا). فأخذت الكثيرين من أولئك القادة العتاة العزةُ بالإثم، وركنوا إلى صوت البطر والكبرياء. كان جمع المؤمنين، بقيادة أفضل الخلق، صلى الله عليه وسلم، يسير في طريقه إلى بدر، وكان جمع المشركين، بزعامة صناديد قريش وعتاتها، يمشي في سبيله إليها بطراً مختالاً. وكان مِنْ جمع المؤمنين مَنْ كره المسير، لا خوفاً من لقاء العدو، فما وجد الخوف إلى قلب مؤمن سبيلاً، وإنما خشية من خوض معركة رأوا أنهم لم يعدُّوا لها عدَّتها، وقد أمرهم خالقهم وناصرهم أن يعدُّوا لأعدائهم ما استطاعوا من قوة. وفي ظلِّ تلك الظروف اقتضت حكمة قائد الغرِّ الميامين أن يستشيرهم. وما كانت الاستشارة إلا سمة من سمات من سدَّد الله خطاه، وألهمه الصواب. وما كان أحكم تلك الاستشارة، وبخاصة أن أصحابه، رضوان الله عليهم، لم يكونوا - كما ذكر سابقاً - قد أعدُّوا للمواجهة الحربية عدَّتها حين خروجهم من المدينة، وأن غالبيتهم من الأنصار، الذين كانت مبايعتهم له أن يحموه ما دام في بلدتهم. فقال أبوبكر، وأحسن. وقال عمر، وأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو، وقال: (يا رسول الله، امضِ بنا لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك دونه حتى تبلغه). فقال له الرسول، صلى الله عليه وسلم، خيراً، ودعا له. ثم قال: (أشيروا عليَّ أيها الناس). فعلمت الأنصار أنه يعنيهم. وجاء صوت الإيمان العميق متدفقاً على لسان سعد بن معاذ، رضي الله عنه: (كأنك تعرِّض بنا يا رسول الله؟ وكأنك تخشى أن تكون الأنصار ترى عليهم ألاَّ ينصروك إلا في ديارهم؟ وإني لأقول عن الأنصار، وأجيب عنهم: فامضِ بنا حيث شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، واعطنا ما شئت. وما أخذت كان أحب إلينا مما تركت. فوالله لئن سرت بنا حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرنَّ معك. ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك). وهنا أشرق وجه النبي، صلى الله عليه وسلم، بما سمع، وقال: سيروا وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، وإني قد رأيت مصارع القوم. وهكذا اقترب الجمعان، جمع الشرك وجمع الإيمان، من ميدان المعركة التي باتت وشيكة الوقوع، وأصبح المسرح مهيّئاً لمشهد تلك المعركة، التي سماها الله - جلَّ وعلا - يوم الفرقان، وشيء من تفصيلات ذلك المشهد العظيم سيأتي - إن شاء الله - في الحلقة القادمة.
|