إن الصوم تربية ومدرسة ولا غرو أن يكون كذلك فهو يمثل ضرباً من ضروب الصبر الذي يشكل الثبات في القيام بالواجب في كل شأن من شؤون الحياة؛ فلقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}..ويعد الصيام من أعظم العون على محاربة الهوى وقمع الشهوات وتزكية النفس وإيقافها عند حدود الله؛ لأنه يساعد المسلم على حبس لسانه عن اللغو والسباب والانطلاق في أعراض الناس، والسعي بينهم بالغيبة والنميمة كما يردعه عن الغش والخداع وارتكاب الفواحش؛ ولذا وجب على الصائم أن يتحفظ عن اللغو والكلام السيئ، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، فالصيام تهذيبٌ لا تعذيبٌ، فإذا لم يؤت ثمرته النافعة فليس النقص منه إنما النقص من سوء تصرف الصائم وعدم صحة قلبه وطهارة ضميره؛ فجدير بالصائم أن لا يفعل بعد إفطاره ما يخل بصومه فيهدم في ليله ما بناه في نهاره من قوة الإرادة والصبر عن المألوفات، فإن عكس الأمر وأخذ يتلهف لساعة الإفطار للإسراع إلى تناول ما حُرِمَ منه بالنهار فقد ضيع ما بناه ولم يستفد من صيامه؛ لأن المسلم في هذا الزمان - للأسف - أصبحت عنده العبادة كالعادة تلاوة قرآن وذكر الله لا يتجاوزان الحنجرة، والصلاة يصليها بجسمه لا بقلبه، والصيام يؤديه مع التضجر؛ فلا الذكر والقرآن يورثان المحبة والتعظيم والتدبر، ولا الصلاة تورث الإخبات والإنابة لخلوها من الخشوع، ولا الصوم يورث قوة الإرادة وصدق العزيمة!! الصوم الصحيح يحقق المعرفة بالحكمة التي شرع من أجلها الصوم؛ ففي الصيام كما التسليم والعبودية لله والانقياد لأوامره، وهذه الحكمة مشتركة في جميع العبادات، لكن المراقبة لله أشد عند الصائم؛ لأنه موكول إلى نفس الصائم وضميره لا رقيب عليه فيه إلا الله؛ فهو سرّ بين العبد وربه، لا يطلع عليه أحد إلا الله؛ لأنه يستطيع أن يفطر سراً مستخفياً عن الناس، لكنه لتقوى الله يلتزم الأمانة في حفظ الصيام، مهما حصل له من الشهوات والمغريات؛ فمواصلة ذلك شهراً كاملاً عن تقوى ومراقبة وحياء من الله يحصل له في هذه المدة نزاهة الضمير وضبط النفس وهذا هو سر ختم آية الصيام بالتقوى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}..ومن هنا وجب أن يكون الصوم عن إيمان واحتساب وتعظيم لشعائر الله، لا عن تقليد؛ فلا يكون كحال الذين يصومون بتوجع وتحسر ويقتل أوقاته بالنوم والبطالة، وهو في الحقيقة قاتل لنفسه قتلاً معنوياً، ويتمنى سرعة انقضاء رمضان وكأنه ليس محسوباً من عمره أو ليس فيه زيادة من أجره والعياذ بالله، فأين حاله من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح الذين يصومون أياماً من الأسبوع أو أياماً من كل شهر تطوعاً لله، يهذبون بها أنفسهم ويتدرجون فيها على حمل أعباء الرسالة وتحقيق الحياة الطيبة؟إن الذين يصومون رمضان بتوجع وتحسر، ويتمنون سرعة انقضائه، قد أورثهم هذا الصيام حرجاً في نفوسهم وضيقاً في صدورهم، فتجدهم حمقى سريعي السخط يغضبون لأدنى سبب، وقد اشتهر هذا بينهم حتى إذا تمادى أحدهم بالكلام والغضب قال السامعون: لا تعتب عليه فإنه صائم، كأن الصائم يمُنّ على الله وعلى خلقه بصيامه فلا يتحمل منهم كلاماً ولا مفاوضة.ولكن الصائم بإيمان واحتساب وخشية ومراقبة وتعظيم لله يجب أن يكون بخلاف ذلك، فيكون راضياً مطمئن النفس منشرح الصدر مسروراً شاكراً لله الذي فسح في عمره حتى بلغه صيام هذا الشهر الكريم، ولم يجعله من أصحاب القبور. هكذا يجب أن يكون حال الصائم بحيث لو أثر الصوم في جسمه بشيء من الفتور لا يؤثر في عقله وروحه ومعنوياته، بل يجب أن تكون روحه ومعنوياته أحسن وأقوى من حاله في الإفطار؛ فلا يكون في نفسه اضطراب ولا ضيق، بل يكون أشرح صدراً وأطيب نفساً وأهدأ أعصاباً فيكون على أحسن خلق في معاملته وحلمه.من فوائد الصيام أن المسلم يتدرب على العبادة ومن أعظمها مراقبة الله وحلاوة الإيمان ولذة العبادة فنجد أنه يألف المساجد ويحرص على صحبة الأخيار فتغشاه الرحمة ولا سيما من وفق لصلاة التراويح وقراءة القرآن ورزقه الله الخشوع فإنه ينتفع بالصيام؛ فعلينا أن نتنبه لأسرار الصيام لنجني ثماره الطيبة.
* الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. |