Friday 14th October,200512069العددالجمعة 11 ,رمضان 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "مقـالات"

نوازعنوازع
مفاهيم التغذية لدى الصينيين
د. محمد بن عبدالرحمن البشر

يبدو أن الصينيين قد استحسنوا الحكمة القائلة (على المرء أن يأكل ليعيش لا أن يعيش ليأكل) فطبقوها في مأكلهم منذ آلاف السنين، كما يمكن لنا القول إن بعض المعتقدات والأديان التي سادت وما زالت في الصين قد تركت أثرها في نوعية الغذاء الصيني ونمطه، فالبوذية دخلت إلى الصين قبل الميلاد بنحو مائة عام، وجلبت معها الكثير من الأفكار والفلسفات، ومن ضمنها ما يتعلق بنوعية الغذاء، وأوقات تناوله، ففي الوثائق البوذية المسماة وثائق (سان زانغ) تم تحديد عشرة عوامل ذات تأثير كبير في الإصابة بالأمراض، وموت الفجأة وهي: البقاء فترة طويلة دون تناول الطعام، والإكثار من الطعام، والقلق والخوف، والإجهاد المضني، والممارسة الجنسية المبالغ فيها، والغضب والغيظ، ومدافعة الحدث الأكبر، ومدافعة البول، ومدافعة الريح الخارجة إلى الأعلى، ومدافعة الريح الخارجة إلى الأسفل.
وفي لفتة أخرى حول الطعام في تلك الوثائق المسماة (تربيكا) البوذية تمت الإشارة الى تسعة عوامل تسبب الأمراض والموت المفاجئ، منها: أكل ما لا يجب أكله، الإكثار من الطعام، الأكل بما لا يتفق مع ما اعتاد عليه المرء، إدخال الطعام على الطعام، تعمد إبقاء الطعام دون هضم. وحوت تلك الوثائق أيضاً بعض النصائح، منها: الاكتفاء بأكل منتجات كل فصل في فصله، وعدم الأكل فوق الحاجة، والأكل في ساعات محددة، وإذا كان لا بد من المجاملة في أكل طعام غير مألوف فلا بد أن يكون بكميات قليلة، وعدم إدخال الطعام على الطعام.
أما الكهنة البوذيون فقد ألزموا أنفسهم بكثير من القيود، منها: اقتصار تناول الطعام في أثناء النهار فقط، عدم أكل الطعام المتخمر أو الحامض، الامتناع عن أكل السمك واللحوم، عدم الحديث في أثناء تناول الأرز وعدم رفع الصوت في أثناء الأكل، والاقتناع بما لدى الإنسان من طعام. وقد قسّم البوذيون الناس إلى ثلاث مجموعات طبقا لمواقفهم من الغذاء وهم كما يلي: مجموعة الطماعين، ويلاحظ أنهم يحبون الغذاء الدسم والحلو، وهم يأكلون ببطء، ويهتمون بالمذاق، ويكونون أكثر سعادة عندما ينظرون إلى طعام مميز في آنيتهم، ومجموعة المبغضين، وهؤلاء يحبون الغذاء الخشن والحامض، ويأكلون بشراهة، ويملؤون أفواههم بالطعام دون اهتمام بالمذاق، ولا يبالون بنوعية الطعام الذي يقدم لهم، أما مجموعة المخادعين، فليس لديهم طعام مفضل، ويمكن تغيير وجهة نظرهم بسهولة.
أما التعاليم الكنفوشيسية، فهي تؤمن بأنه يمكن الحصول على صحة أفضل من خلال التمسك بالأخلاق الحميدة، والسلوك القويم، لأنها تغذي الروح بحب الآخرين، فيسود الوئام مما يجلب معه النقاء الروحي، والصحة البدنية، والأخلاق الحميدة ذاتها تجلب السعادة مما يساعد على تجنب الكثير من الأمراض، والفضائل الخمس التي يرى (كنفوشس) أهمية التمسك بها هي: العدل، والسلوك المثالي، والحكم المنصف، والاستقامة، والتسامح. وهو بهذا يرى أن تهذيب النفس يجلب السعادة والطمأنينة، وهذا بدوره يساعد الجسم على الاستفادة من الغذاء الذي يتناوله الإنسان، كما يساعده على تجنب الكثير من الأمراض.
لقد سأل (كنفوشس) الفيلسوف المشهور الذي عاش خلال الفترة من (551-479) قبل الميلاد عن مكايد الحروب وأساليبها فكان جوابه (حقاً لقد سمعت أموراً تتعلق باللحوم، وأحجام الأطباق التي توضع عليها، لكنني لم أتعلم الأمور الحربية) كما أن كنفوشس نأى بنفسه عن استخدام السكين في الأكل، معللا ذلك بأنه ليس من الأخلاق أن يستخدم الإنسان أداة قتل أخيه الإنسان في أمر نبيل مثل الأكل، ومنذ ذلك التاريخ أصبح استخدام عودي الأكل في تناول الطعام لدى الصينيين بديلا عن السكين، واستمر استخدام هذه الأداة حتى عصرنا هذا.
أما الطاوية ومؤسسها (لاو - تسي) فإنها ترى إمكانية الحصول على صحة أفضل من خلال اتباع قوانين الطبيعة، ولهذا فقد طرح ما سماه الجواهر الثلاث للشفقة، وهي: التواضع، وعدم اتخاذ القرارات القاسية، والبساطة في السلوك الإنساني. وهو يرى أن التغذية على الخضراوات والفواكه، هي السبيل الأمثل للحصول على صحة جيدة، وعمر مديد.
قال الفيلسوف الصيني (طاوتزو) الذي عاش في عصر الممالك المتحاربة: (الرغبة في الطعام والممارسة الجنسية فطرة طبيعية) ونحن نقول هذه حقيقة، وكلاهما يحققان متطلبات الإنسان للمساعدة على الاستمرار في هذه البسيطة التي حباها الله مخلوقاته، وكلاهما محقق للمتعة، غير أن التباين بينهما يظهر في مقدار التنوع، فالممارسة الجنسية تنوعها محدود، بينما الغذاء يتنوع تنوعاً كبيراً في مصدره، ولونه، وطريقة إعداده، وأسلوب تقديمه، ومذاقه، وأدوات تناوله، ومحتوياته، وغير ذلك كثير.
والممارسة الجنسية تكاد تكون متشابهة مع قليل من التنوع لدى شعوب العالم، بينما الطعام يختلف اختلافا قد يكون جوهريا لدى الشعوب المختلفة انطلاقا من ثقافاتهم وظروفهم البيئية، كما أن هناك تباينا في الطعام المتناول داخل كل مجتمع بعينه، بل داخل الأسرة الواحدة، ولهذا فإن لدى الإنسان قائمة لا تكاد تحصى من الخيارات عند رغبته في تناول طعامه.
أما الإسلام الذي داخل الصين في بداية بزوغ نوره، فقد جاء ومعه كثير من المفاهيم منها: (ما ملأ الإنسان وعاء شر من بطنه)، وكذلك (المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء) وكذلك (حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه) وكذلك (ثلث للطعام، وثلث للماء، وثلث للهواء)، وغيرها كثير، كما أن الإسلام يحرم أكل لحم الخنزير، وما أهل به لغير الله به، والميتة، والدم والنطيحة: وهي تلك التي ماتت بسبب نطح غيرها لها، وما أكل السبع: أي تلك التي أكل بعضها السبع فماتت، والمنخنقة: أي تلك التي خنقت حتى ماتت، والموقوذة: وهي تلك التي ضربت بثقيل حتى الموت، والمتردية: وهي تلك التي وقعت من مكان عال فماتت، وكل ذات ظلف، وكل ذات ناب، كل هذه المحددات التي حددها الإسلام جعلت الزائر للصين يرى انتشار المطاعم الإسلامية في كل قرية ومدينة صينية، لتوفير الطعام للمسلمين الصينيين المنتشرين في كل أرجائها.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved