Friday 14th October,200512069العددالجمعة 11 ,رمضان 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "مقـالات"

ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلمميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم
د. محمد بن سعد الشويعر

في شهر رمضان المبارك تلين الأفئدة، وتتجه القلوب للعبادة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعان عباده فيه على حبّ الخير، فالصيام يضيّق على الشيطان مسيرته في الجسم، حيث هو يجري من ابن آدم مجرى الدم، وتصفد مردة الشياطين فلا يغرُّون الإنسان باتباع الهوى، ولا الاستسلام للوساوس والهواجس.
فترى الصوّام يتسابقون في فعل الخيرات، ويسارعون إلى المكرمات قولاً حسناً، وأدباً في الملاقاة والمودة، وعطفاً على المحتاجين، وبذلاً في أيدي المساكين، كل بمقدرته؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلى وسعها، وحسن خلق في التعامل، وملاطفة عند الملاقاة تقديراً وليناً في القول.. وغير ذلك من آداب ومكارم هي من سمة شهر رمضان، ولِمَ لا وهذا الشهر قد خصه الله بين الشهور بالمنزلة الرفيعة، والمحامد والمزايا التي لا تتوافر في غيره، ففيه أنزل الله القرآن: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ(185)} سورة البقرة، وفيه للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، كما جاء في الحديث الشريف، وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}ذلك أن خصائص شهر رمضان كثيرة، يقدم كل عام على الناس، ليغتنم كل فرد فيه الفرص ولينهل من موارده العذبة، حيث الربح والمغفرة لمن عمل، والخسارة والندامة لمن فرّط وتكاسل عن العمل.. فقد صعد يوماً رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، وكلما رقي درجة منه قال: (آمين).. كرر ذلك مرات، ولما سُئل عن ذلك؟ قال: (أتاني جبريل فقال: يا محمد رَغِمَ أنف مَنْ أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل آمين. فقلت: آمين. ثم قال: رَغِمَ أنف رجل ذُكِرْتَ عنده ولم يصل عليك. قل آمين. فقلت: آمين. ثم قال: رَغِمَ أنف مَنْ أدركه شهر رمضان ولم يُغفر له، قل: آمين. فقلت آمين).
وما ذلك إلا أنَّ رمضان موسم للعبادات يجب اغتنامه في تلاوة القرآن، والصلاة والذكر والتسبيح، وحُسن الخلق والصدقات، وغير هذا من أعمال ترتاح إليها النفوس، حيث ينشِّط الله الأبدان والحواس، فضلاً منه وإحساناً، حتى يزداد الإنسان عملاً صالحاً. وفي موسم عظيم كشهر رمضان، كل أعمال الخير في رمضان جزء من ميراث رسول الله، وقد أراد أبو هريرة رضي الله عنه تقديم وسيلة إيضاح تُرغّب الناس في الخير، وتتلاءم مع موسم العبادات وفعل الخيرات في شهر رمضان، وذلك عندما جاء للناس، وهم في سوقهم بيعاً وشراء، وما إلى ذلك، فقال: ما بالكم في غفلتكم، وميراث رسول الله يقسّم، اذهبوا وخذوا نصيبكم منه. فقالوا: أين هو؟ قال: في المسجد، فذهبوا سراعاً، حتى دخلوا المسجد، فوجدوا الناس أوزاعاً: قسم يصلون، وقسم يتذاكرون الحديث وقسم يقرؤون القرآن، وقسم يتعلمون العلم ويسبحون ويستغفرون.. فرجعوا إلى أبي هريرة وقالوا: ما وجدنا شيئاً يوزع من ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ماذا وجدتم في المسجد؟ فأخبروه بما رأوا الناس فيه.. فقال: هذا هو ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعليكم بالاجتهاد والأخذ بنصيب وافر منه، ثم قال: كيف غاب عنكم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي جاء فيه: أن ميراث الأنبياء هو العلم فمَنْ أخذه أخذ بحظ وافر.. ثم قال لهم أبو هريرة - رضي الله عنه -: ومن ضيّع العلم وتركه فقد ضيّع حظه من الميراث.
فإذا كانت المواريث التي هي في معهود الناس دراهم أو عقارات، أو عروض من أعراض الدنيا غالية عندهم، ويتهافتون عليها، مع أن الدنيا كلها، وما فيها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فإن ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم تزداد رغبة الناس فيه بشهر رمضان؛ لأنه شهر الخير والبركات، وشهر الجود والكرم، فيجب الاهتمام به في هذه الأيام التي أظلتنا مع إطلالة شهر رمضان؛ لأن في ذلك الميراث الذي يتحصل عليه المسلم من المسارعة في الأعمال الصالحة النافعة، مصالح كثيرة، وهي متوافرة في كل وقت، ولكنها أدعى للرغبة والاستزادة في رمضان.
ومن هنا ندرك حرص من أراد الله بهم خيراً من الناس على المحافظة على الصلوات، والمرابطة في المساجد نفلاً وفريضة.. وهذا علامة خير، وبشارة تطمئن إليها الأفئدة، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم كثرة المرتادين للمساجد فاشهدوا لهم بالإيمان). وأكرم بها من شهادة.
وكذلك كثرة الدعاء والتسبيح والتهليل، لما في ذلك من التأسي بأنبياء الله الذين مدحهم الله بذلك، وبمن سار على نهجهم، حيث قال سبحانه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (90)سورة الأنبياء، واعتكافاً في المساجد آخر شهر رمضان، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما أخبرت عنه عائشة رضي الله عنها بقولها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجتهد في رمضان، ويشتد في آخره، فإذا دخلت العشر الأواخر شد المئزر واعتكف واعتزل النساء.
والاعتكاف من السنن المؤكدة، ولكنه في رمضان أكثر تأكيداً وفي المسجد الحرام له مزية؛ لأن الله عهد إلى أنبيائه بذلك فقال سبحانه: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (125)سورة البقرة.
ومن ميراث النبوة في شهر رمضان حفظ اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة، وقول الزور، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن امرأتين صائمتين، وقد تعبتا من الصوم، واشتد عطشهما: فأمر صلى الله عليه وسلم بإناءين وأمرهما بأن يتقيّأا فيهما، فقاءتا دماً ولحماً عبيطاً، فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد صامتا عمّا أباح الله، وأفطرتا على ما حرّم الله، لو ماتتا على ذلك لعذبهما الله)، وذكر العقاب الشديد.
وميراث النبوة، يبرز في كل عمل خيري، وفي كل سُنّة قولية أو فعلية أو تقريرية، فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرص المسلم أن يترسم فيها خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء في التعجيل بالفطر، وتأخير السحور، وأن يفطر على تمرات ويقول عند إفطاره الدعاء المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت وبك آمنت). ثم يقول في نهاية الإفطار: (ذهب الظمأ وابتلّت العروق، ووجب الأجر إن شاء الله).
وكذلك في صوم الفريضة، تبييت النية من الليل، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يبيت الصوم من الليل فلا صيام له)، وفي لفظ ابن حزم: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له) أخرجه النسائي وأبو داود والترمذي.
ولما كان عدو الله إبليس يغيظه ما يرى من همة المسلمين في كل مكان، من اغتنام الفرص، وحفظ الأوقات والمسارعة إلى العبادات: قراءة القرآن وصدقات وتهجداً، فإنه يتألم أكثر عندما يكثرون السجود، ويقول: يا ويلاه دُعِيتُ للسجود فعصيت، ودعي ابن آدم فأطاع.. فكان من ميراث النبوة كثرة السجود في رمضان، ثم يختم هذا الشهر بزكاة الفطر التي حثّ عليها رسول الله لأنها طهرة للصائم صاعاً من أي من مأكول يقتاته الناس في أي بلد.
نماذج من الوفاء:
يُقال في الأمثال: أوفى من أم جميل. وهي دوسية من قبيلة أبي هريرة - رضي الله عنه -. ذكر أهل الأدب من وفائها أن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي قتل رجلاً من الأزد، فبلغ ذلك قومه بالسراة، فوثبوا على ضرار بن الخطاب الفهريّ ليقتلوه، فهرب منهم وهم يتبعونه ليقتلوه، حتى دخل بيت أم جميل وعاذ بها. فقامت في وجوههم، ودعت قومها فمنعوه لها، فلما وَلِيَ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خلافة المسلمين، ظنت أم جميل أنه أخو ضرار بن الخطاب، فأتته بالمدينة، فلما انتسبت إليه، عرف القصّة، فقال: يا أم جميل لست بأخيه إلا في الإسلام، وقد عرفنا منّتكِ عليه، فأعطاها على أنها ابنة سبيل.
أمّا وفاء السموأل بن عاديا، فقد ذكر أهل الأدب من وفائه أن امرأ القيس بن حجر الكندي لما أراد الخروج إلى قيصر، استودع السموأل - وكان مسكنه خيبر - دروعاً له، فلما مات امرؤ القيس بالقروح في جبّة مسمومة من قيصر، غزا السّموألَ ملكٌ من ملوك الشام، فتخوّر منه السموأل، فأخذ الملك ابناً له، وصاح به: يا سموأل هذا ابنك في يدي، وقد علمت أن امرأ القيس ابن عمي، وأنا أحق بميراثه، فإن دفعت إليّ الدروع، وإلا قتلت ابنك. قال السموأل: أجّلني؟ فأجّله، فجمع أهل بيته، وشاورهم فكلهم أشاروا بدفع الدروع، وأن يستنقذ ابنه، فلما أصبح أشرف فقال: ليس إلى دفع الدروع سبيل، فاصنع ما أنت صانع. فذبح الملك ابنه، والسموأل ينظر إليه، وانصرف الملك، ووافى السموأل بالدروع الموسم، فدفعها إلى ورثة امرئ القيس بعد أن تحقق منهم.
وكتب ارسطاطاليس: يا اسكندر اعلم أن الأيام تأتي على كل شيء فتخلقه، وتخلق آثاره، وتحيق الأفعال إلا ما رسخ في قلوب الناس، فأودع قلوبهم محبة أبدية، تبقى بها حسن ذكرك، وكريم أفعالك، وشرف آثارك (محاضرة الأبرار 2:283).

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved