*قراءة- حنان بنت عبد العزيز آل سيف: الذكريات فن من فنون الترجمة الشخصية، وضرب من ضروب السيرة الذاتية، وهي التي يكتبها صاحبها على صورة استرجاع وتذكُّر لأحداث حياته المختلفة، كما يهتم مبدعها بتصوير مجتمعه بشخصياته ومشاهده وأحداثه المختلفة. وفن الترجمة الذاتية فن عربي أصيل مشرقي الجلدة، عربي الأديم. وقد ضمن المؤلفون القدامى كتبهم شذرات ولمحات من حياتهم الشخصية، وطموحاتهم الذاتية، ومرئياتهم النفسية، فجاءت هذه اللُّمح والظرف والغرر كتباً عزيزة المنال، فريدة المقال، عندما جُمعت وبُوِّبت في مجلد ضمَّها بين طرفيه، وفي كتاب جمعها بين برديه. وقد ترجم العلماء والأدباء والسياسيون والمتصوفة لأنفسهم ضمن مؤلفاتهم المتعددة، وعلى سبيل المثال: فهذا ابن الجوزي يترجم لنفسه في كتبه المشهورة كصيد الخاطر ولفتة الكبد والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم. وهذا أسامة بن منقذ بطل من أبطال الحروب الصليبية المغاوير، وفارس من فرسانها الميامين، يترجم لنفسه على شكل مذكرات جادت بها ذاكرته من مراحل حياته المختلفة، ويسمي هذه المذكرات (الاعتبار). ويعتبر النقاد المحدثون هذا الكتاب ترجمة كاملة، ومذكرة وافية، إلا أنها تفتقر إلى عنصري الترتيب والتنسيق، كما ألمح إلى هذه الفائدة الدكتور شوقي ضيف في كتابه الرائد (الترجمة الشخصية). وما زال العلماء يضمنون كتبهم شيئاً من سيرهم، حتى تبلور هذا الفن في العصر الحديث على يد عميد الأدب العربي الحديث (طه حسين) في كتابه (الأيام) والأديب (أحمد أمين) في كتابه (حياتي)، ثم جاء معالي الدكتور القدير عبد العزيز بن عبد الله الخويطر - حفظه الله ورعاه - في هذه الأيام ليقتفي أثر هذين الأديبين في مؤلفه القيِّم (وسمٌ على أديم الزمن)، وهو كتاب شائق ماتع، لا تكاد تبدأ في أولى صفحاته حتى تأتي به على أكمله. والكتاب ضخم جداً، يقع في (411) صفحة من القطع الكبير، ويُعدُّ وثيقة علمية خطيرة على الحقبة الزمنية التي عاش فيها المؤلف حفظه الله ومتَّعه بطول العمر آمين. وقد جادت به الأنامل الذهبية لمطبعة سفير، وبين يديّ الطبعة الأولى لعامنا الميمون الطالع 1426هـ - 2005م. والكتاب آلة فوتوغرافية دقيقة لا تأتي على أخضر أو يابس إلا التهمته، ولا على شاردة وواردة إلا ذكرتها. في هذا الكتاب تتألق تلك الأسرة العريقة التي عاش في أوساطها معالي الأديب الأريب الدكتور عبد العزيز الخويطر، هذه الأسرة التي تضرب بأمجادها في ثرى التاريخ وثريا العلم، ويلفت نظرك تلك النفس الأبيّة الخويطريّة التي تشرَّبت حبَّ العلم منذ نعومة الأظفار وغضاضة الإهاب، كما يستهويك هذا الرجل الهمام الحارث باعترافاته النديّة ومذكراته الأبيّة. يقول في مقدمة كتابه مشيراً إلى سبب كتابته هذه المذكرات ما نصُّه: (طالما تمنيتُ أن والدي كتب سيرة حياته وذكر فيها ما يعرفه عن آبائه وأجداده وأصول الأسرة وفروعها، وما مرَّت به من حركة واستقرار، وهجرة وتوطُّن، وشدٍّ وترحال وتنقُّل، وبيَّن ما توصَّل إليه عن وسائل معيشتهم في بداوتهم وحضارتهم، وهو دأب قبائل نجد في السنين الماضية، هم بدو رحَّل يتبعون مواقع الكلأ وسقوط الأمطار، تجمعهم الموارد وقت الصيف بعد أن يصوح النبت، وتجف الغدران.. هناك عاطفة مضيئة زرعها الله في الإنسان، هي حبه لوطنه وحبه لأهله وأسرته، حبه لجيرته، حبه لأصهاره وأصهار أصهاره، ولا تتم سعادته إلا بمعرفته التامة بأمورهم الحاضرة والماضية، ولعل شغفه بالماضي أقوى من شغفه بالحاضر.. لهذا تمنيتُ اليوم أمنية أعرف أنه من المستحيل أن أصل إلى تحقيقها، تمنيتُ أن جدِّي وأبي أخبراني عن أسرتي بالتفصيل، أو تركا أثراً مكتوباً، أما عدم إخبارهم لي فقد حال اليوم موتهم دون تداركي لما فات منه). وعماد هذه السيرة الذاتية هو الذاكرة في استرجاع الأحداث بعد مدة من الزمن قصيرة أو طويلة، وكتابة السيرة الذاتية أمر شاق ليس من السهولة بمكان، وذلك لأن الكاتب يتجرَّد من كل نزعاته، ويشحذ همته معتمداً على أمرين: أولهما القلم، وثانيهما الصدق. يقول المؤلف حفظه الله تعالى: (سوف أحاول في هذه المذكرات ما أسعفتني أوراقي ودفاتري وما لديَّ من وثائق، وما أسعفتني به الذاكرة، أن أكون أميناً فيما أكتب، صادقاً فيما أنقل، واضحاً فيما أصوِّر؛ لأن الحقيقة جميلة، ومَن يخالفها فقد ترك الجميل إلى القبيح. ولي عنصر أثرة في هذا لا أخفيه، وهو أني سوف أتمتع قبل القارئ بذكرياتي كما كانت، وربما كانت متعتي بهذا أكثر من متعته. فليسمح لي بهذا، وليغفر لي أن أمشي أمامه، فأنا مستحق ذلك؛ لأن بعض ما سوف أذكره قد دفعت ثمنه سنين من عمري، أشابت الشعر، وأنهكت الجسم، وأضعفت الحواس، وكل يُغني على ليلاه، وذكرياتي هي ليلاي، والحمد لله على ما وهبني في حياتي، وهو أعلم بما منع، فله الحمد أولاً وآخراً). هذا، وقد تناول معالي الدكتور الخويطر ذكرياته في خط واحد يتصاعد على شكل القصص الأدبي الرائع، معرجاً على طفولته ونشأته والمؤثرات الخارجية المختلفة التي أثَّرت في حياته، وأثْرَت ذكرياته، فجاءت غنية من الناحيتين النفسية والاجتماعية، فقيرة من الناحية السياسية، يقول حفظه الله ورعاه: (هذه المذكرات لن يكون فيها من أمور السياسة شيء؛ لأن السياسة وأمورها في عصر كاتب هذه المذكرات موثَّقة بوثائق رسمية هي أصدق من تقديره، وأقوى ذاكرة من ذاكرته، ونحن اليوم في عصر المعلومات المدونة، فلا نحتاج أن نتكفف الأفراد لنعلم منهم أجواء السياسة مجملة أو مفصلة في زمننا). وفي هذه السيرة الذاتية يرسم المؤلف صورته بكل دقة وهو يدبُّ إلى الثالثة عشرة من عمره في مدينة عنيزة عمرها الله وحرسها. وهذا الجزء هو الأول من ثلاثة أجزاء، وهو يُعطي صورة صادقة لحياة الصبيان في ذلك الوقت. وقد أطرفنا المؤلف بذكره تجاربه العمرية وخبراته الحياتية، وهي تجارب ثرة وثرية تصف حياة ذلك الصبي بكل ما فيها من ضعف وقوة، ونقص وكمال، وواضح ومبهم. وقد قُدمت هذه السيرة في شكل مذكرات دقيقة جاءت متناثرة من هنا وهناك، إلا أنها لا تخلو من جانب الإمتاع والطرافة والإيناس الذي يجعل قارئ الكتاب نهماً حتى يأتي على صفحاته الأربعمائة كلها التي تناول المترجم نفسه فيها بقليلها وكثيرها وفيضها وغيضها، فغدت هذه الاعترافات مذكرات قصصية حيّة بديعة لأيام عمره الأولى من شباب وفتوة وهمة وطموح، وسكب على هذه المذكرات الكثير من إبداعه الرائع وتألقه الذائع، فجاءت هذه السيرة في قطعة أدبية جميلة متألقة؛ إذ نقش فيها الخويطر أحداث حياته الحافلة بالصراع والجهد والكفاح على صخور التاريخ، وعرضها على مطَّلعي كتابه ببراعة وتفنُّن، فلله درُّه. ولا تخلو هذه السيرة الطويلة من منظار نقدي مجهري للعادات والتقاليد التي كانت سائدة في ذلك الوقت، فالخويطر يملك عدسة ثالثة وعيناً زائدة يرسم بها ما عج ويعج في مجتمع طفولته الذكية من أحداث وأحاديث، ومقالات ومقامات. وهذه العين من أبرز سماتها الموضوعية والحيادية والعدالة والإنصاف، واستمع أيها القارئ الكريم إلى مؤلف الكتاب وهو يقول واصفاً حياديته وموضوعيته: (وعلى هذا سوف لن أتحاشى ذكر جوانب النقص كما أعرفها، وسوف أبرزها إبرازاً عادلاً. أما الجوانب التي ليس فيها نقص، ولا تدخل حيِّز العيوب، فسوف تتكفل بإبراز نفسها، فتدخُّلي يحتاج مني إلى لجام؛ حتى لا تجمح بي لذَّتها وتختلني فتدخلني دون أن أعي في نطاق العاطفة، والعاطفة إذا لم تكن إبرازاً ظلمت الفكر، فيتقاصر حظه من التحكم في العمل فيجيء خُداجاً). والنهج الذي سار عليه المؤلف - سلَّمه الله - أثناء حديثه عن أحداث صباه هو التسلسل الزمني، فيقول: (أما النهج في كتابة هذه المذكرات فسأحاول أن أسير فيما أكتب حسب التسلسل الزمني، إلا ما قد أغفل عنه في مكانه ثم أتذكره فيما بعد فسوف أدونه محاولاً أنْ لا يكون في مكان ناءٍ). حفظ الله المؤلف، وبارك في ذكرياته، ولا يزال معينه ثراً لا ينضب، وقلمه سيالاً معطاءً لا يجف.
عنوان المراسلة: ص. ب 54753 - الرياض 11524 |