لا أدري هل واقع الترجمة في العالم العربي، يعكس طبيعة علاقتنا مع العالم الخارجي، ومدى رغبتنا الحقيقية في الانخراط في المسيرة العالمية، من حيث النكوص والإحجام والتوجس والريبة؟! فمؤشر الأرقام في هذا المجال محبط للغاية، وقد ذكر الأمير خالد الفيصل في كلمته (أثناء افتتاح مؤتمر الفكر العربي الثالث الذي يهدف إلى دعم حركة الترجمة في العالم العربي) أرقاما وردت في أحد تقارير الأمم المتحدة المتعلقة بالإنماء والثقافة عن واقع الترجمة، حيث أشار التقرير إلى أن معدل الترجمة بلغ كتاباً لكل مليون عربي، بينما في أسبانيا 120 كتاباً لكل مليون نسمة. وأعتقد أن المؤتمر يندرج ضمن الأعمال النبيلة والجادة التي تهدف إلى مد جسور حقيقية تجاه العالم، وإمداد العالم العربي بالثراء المعرفي العالمي الذي من شأنه أن يطوق التعصب والأحادية والالتفاف حول فكر متزمت. وبداخل هذه الظلمة أوقدت شمعة رائعة وتحمل حساً نبيلاً واستبسالياً على يد الأستاذ حمد العيسى، والذي ترجم مؤخراً مسرحية من أبرز المسرحيات التي ظهرت في القرن العشرين بعنوان: (وارث الريح)، والمسرحية كما جاء في مقدمة المترجم (مقتبسة من أحداث محاكمة أمريكية شهيرة جداً وقعت في منتصف العقد الثالث من القرن العشرين. حيث أصدر المجلس التشريعي لولاية تنيسي، قانوناً يمنع تدريس نظرية التطور لداروين، ويعاقب على تدريسها بالغرامة والسجن، لكن قام مدرس علم الأحياء جون سكوبس بتدريس النظرية في مدينة دايتون، عندها قام المدعي العام برفع قضية ضد المعلم لخرقه هذا القانون، وكانت أول قضية في أمريكا ضد نظرية داروين، ولهذا اكتسبت القضية بعداً خاصاً وأهمية فائقة كصراع بين المحافظين والليبراليين هناك. عرفت هذه الحادثة رسمياً باسم محاكمة سكوبس، واشتهرت صحفياً بمحاكمة القرد، وكانت القضية الضمنية أكبر بكثير من مجرد خرق قانون محلي، لقد كان صراعاً دامياً بين التقليد والحداثة العلمانية في أمريكا، في مشهد وصفته جريدة نيويورك تايمز. أغرب مشهد في قاعة محكمة التاريخ الأنجلوسكسوني). المسرحية التي رفضت أن تعرض في البداية في برودواي.. لاقت لاحقاً نجاحاً منقطع النظير، وأنتج عنها فيلمان سينمائيان، وفيلمان تلفازيان). ويبدو اختيار الأستاذ حمد العيسى لترجمة هذه المسرحية بالذات، اختياراً جريئاً، ساعياً إلى كسر النمطية التي تتمحور في الترجمة عادة حول الكتب ذات الطابع الشعبي مثل قصص أجاثاً كريستي وروايات عبير، ولكن هذه المسرحية تبرز جانباً غامضاً تماماً بالنسبة لنا كقراء عرب حول طبيعة الصراع بين التيارات في الولايات المتحدة بالذات التي تنصب نفسها الآن قائداً للحرية العالمية، على حين أن مسارح برودواي الشهيرة في نيويورك رفضت في البداية عرض هذه المسرحية على خشبة مسارحها، علماً بأن الصراع مازال قائماً إلى الآن بين التيارين، بحسب ما تنقله لنا وسائل الإعلام الأمريكية. الشيء الآخر إذا كنا في العالم العربي نفتقد المسرح (المسرح الجاد الذي يمتلك خصائص فنية عالية) فلا بأس أن نقرأ على الأقل مسرحاً هادفاً وجاداً.. حتى ولو عبر الكتب. فشكراً لكل من ينهض بعمليات الترجمة، ولكل من يقوم بمد الجسور ويمهد الطرق بيننا وبين العالم الخارجي.
|