ما الذي يحدث هذه الأيام بين أبناء الشعب الفلسطيني الواحد؟ هل أصبح الدم الفلسطيني رخيصاً إلى هذا الحد حتى يراق هكذا بسهولة ويقتل الفلسطيني أخاه بدم بارد في تصعيد خطير في التعامل بين الفلسطينيين وخرق لمبدأ حرمة الدم الفلسطيني؟! وكيف نجح العدو الإسرائيلي وعملاؤه في دفع إخوة السلاح لإطلاق النار على بعضهم البعض - بدلاً من إطلاق النار على هذا العدو - لتحقيق ما كان يحلم به منذ توقيع اتفاق أوسلو في (صوملة الأراضي الفلسطينية)؟! ومن هو القائد الذي أمر المدرعات الفلسطينية بالدخول إلى المدن والمخيمات الفلسطينية تحت ذريعة حماية القانون، ووحدانية السلطة، والقضاء على الفلتان الأمني، والحفاظ على الأمن والوحدة الوطنية، والحفاظ على التهدئة مع العدو الإسرائيلي؟! ألا يعرف هذا القائد البطل بأن هناك فرقاً بين حي الزيتون ومستوطنة نتساريم؟! وأن شوارع وأزقة مخيم جباليا وبلدة بيت لاهيا ليست شوارع مستوطنات غوش قطيف؟! وألم تصل إلى مسامعه أن قوات الاحتلال الصهيوني نفذت أكثر من ( 8000 ) خرق منذ تاريخ التهدئة في 8-2-2005م قتلت خلالها أكثر من 55 فلسطينياً، وجرحت أكثر من 900 آخرين، بينما اعتقلت نحو 1400 فلسطيني. (في نفس اليوم الذي دخلت فيه الدبابات والآليات الفلسطينية حي الزيتون، قتلت القوات الإسرائيلية 6 من مجاهدي حركة حماس..!!). وألم يسمع هذا القائد وغيره في الأجهزة الأمنية الفلسطينية تهديد مجرم الحرب شارون باستمرار مذابحه (الهامة والمكللة بالنجاح) في قتل الأطفال والنساء في الضفة الغربية وقطاع غزة..؟! ألم يقل شمعون بيريز بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة في عام 1994م (لقد نفضنا أيدينا من دم الفلسطينيين وستتولى شرطتهم هذه المهمة من الآن فصاعداً.. ولتغرق غزة في الدم)؟!! ولتغرق الأرض الفلسطينية في الدم..!! وليستمر شلال الدم الفلسطيني ولكن هذه المرة بأيدي فلسطينية..!! وألم يتمنَ رابين ذات يوم أن تغرق غزة في البحر؟! تساؤلات كثيرة تلح بإجابات ضرورية لتأطير المرحلة الفلسطينية الراهنة ليتحقق الفهم المطلوب وليتم استيعاب تفاصيلها على أساس واقعي. للتاريخ فإن القائد الفسطيني الراحل خالد الحسن (أبو السعيد) الذي نفتقده في هذا المرحلة كأحد أعمدة الفكر السياسي الفلسطيني، كان أول من حذر من ظاهرة قتل الفلسطينيين بأيدي شرطتهم بعد دخول هذه الشرطة مناطق الحكم الذاتي بعد توقيع اتفاق القاهرة بين الفلسطينيين والحكومة الإسرائيلية في مايو 1994م، وفي لقاء مطول مع (أبوالسعيد) تنبأ بما يجري هذه الأيام في أراضي السلطة الفلسطينية، وعندما أبديت استغرابي لهذا الطرح مذكراً إياه بالوحدة الفلسطينية والتلاحم منذ انطلاقة الرصاصة الأولى في يناير 1965م وحتى الآن، ذكر (أبو السعيد) القصة التالية: (عندما استلم شارل ديغول رئاسة فرنسا، كانت الشبهات تحوم حول أحد كبار الموظفين في قصر الرئاسة بأنه يعمل لمصلحة دولة كبرى، وقد عجزت كل الأجهزة الأمنية المختصة عن الوصول إلى دليل مادي لتحويل التهمة من شك إلى قضية مادية، وفي النهاية رفع الأمر إلى ديغول حيث قام باستدعاء المشتبه به إلى مكتبه، وحال دخوله استثمر الرئيس الفرنسي عنصر المفاجأة وهيبته الرئاسية فطرح على الموظف بشكل مباشر وصريح السؤال التالي: منذ متى وأنت تعمل لمصلحة دولة (...)؟ فأجابه الموظف برد فعل سريع: منذ عشر سنوات..!! واستمر الحوار كالتالي، ديغول: كيف تتلقى التعليمات؟ الموظف: لا أتلقى تعليمات. ديغول: وكيف ترسل تقاريرك؟ الموظف: لا أرسل أي تقارير. ديغول: كيف يتم بك الاتصال إذن؟ الموظف: لا يوجد أي اتصال ديغول: كيف تعمل إذن لصالح دولة (...)؟ الموظف: إن مهمتي تنحصر من خلال موقعي بأن أختار دائماً أسوأ الموجودين من حيث الفهم والاختصاص إلى عضوية اللجان التي تبحث المواضيع المطلوب دراستها وتقديم التوصيات بشأنها لتكون التوصيات أبعد ما تكون عن الصواب وقد قمت بهذه المهمة منذ ذلك الوقت حتى الآن..!! وهنا أحسست بعمق الألم الذي يعانيه كل أولئك الذين ينادون بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب بعد أن وعى هؤلاء الظاهرة الممتدة في وطننا العربي التي تعطي فيها الأولية للولاء الشخصي بدلاً من الولاء والانتماء الوطني القومي، وإلى حسن الحديث في المديح والإعجاب بدلاً من الكفاءات وشجاعة إبداء الرأي، وكان (أبو السعيد) يخشى من أن يكرر البعض تجربة الفاكهاني في أراضي الحكم الذاتي..!! إن ما حصل في حي الزيتون وجباليا وبيت لاهيا (وهي من أكثر المناطق التي تعرضت للاجتياحات الإسرائيلية) يشكل تصعيداً خطيراً في التعامل مع الفلسطينيين وخرقاً لمبدأ حرمة الدم الفلسطيني، هذا الدم المستباح إسرائيلياً ويحاول البعض من أبناء جلدتنا استباحته أيضاً!! فعندما تتحول وجهة البنادق الفلسطينية لتصوب في اتجاه الصدور الفلسطينية فهذا يعني أن حامل هذه البندقية إنما يمسك بالبندقية الإسرائيلية هذه المرة، ويوفر عليها مشقة إكمال مهمتها الأزلية في هدر المزيد من الدم الفلسطيني.. كل الدم الفلسطيني، وأياً كانت الأسباب التي أدت إلى ما حدث، فإن دم الشعب الفلسطيني أقدس من أية قضية يزعم البعض الدفاع عنها! إن على الفلسطينيين الذين عرفهم العالم بأنهم رواد في الدراسات التأصيلية التي تضع القضايا مهما تشابكت وتعقدت أو تفرعت وتشعبت - في إطارها وحجمها الصحيح أن يدركوا بشكل جلي أن المستفيد الوحيد من تناحرهم على أرض وطنهم هو العدو الإسرائيلي، كما كان المستفيد الوحيد من علاقاتهم المضطربة في الخارج قبل تأسيس السلطة الوطنية، وأن أي اضطرابات في الشارع الفلسطيني لن تصب في مصلحة أي طرف سوى هذا العدو الذي سيستثمر ما يجري على الأراضي الفلسطينية لتحقق مكاسب سياسية تدعم موقفه في كل اتجاه. وأن أمل إسرائيل بجميع أحزابها هو قيام حرب فلسطينية أهلية شاملة، ليس بين السلطة وفصائل المقاومة وإنما بين كل ما هو فلسطيني وفلسطيني..!! وأن أمنية إسرائيل أن تتحول مناطق الحكم الذاتي إلى مناطق للقتل الذاتي الفلسطيني..!! يجب على الفلسطينيين أن يقتنعوا بأن أية فتنة بينهم بأي وجه وتحت أي مبرر إنما هي خدمة للعدو الإسرائيلي حتى وإن كان المخططون والمنفذون لا علاقة لهم به، وأن يعملوا أيضاً على عدم تكرار أحداث غزة حتى لا تتحول أهداف الشعب الفلسطيني عن مسارها الطبيعي إلى اتجاهات أخرى تزيد في الإحباط القائم حالياً. لقد جاءت أحداث غزة الأخيرة بمثابة دق جرس تنبيه لرؤية الظلال القاتمة على مسيرة الحوار الوطني الفلسطيني التي طالما تشدق بها الجميع بعد إفراغ هذا الحوار من محتواه ومن الأسس التي بني عليها. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: كيف نتجنب تكرار هذه المأساة في المستقبل والبعد عن الاحتكام إلى السلاح بين أبناء الشعب الواحد الذي سيجر إلى ويلات كثيرة على رأسها إغراق أرض فلسطين في حمامات دماء قوامها الثارات والثارات المضادة، إضافة إلى إتاحة المجال للعدو الإسرائيلي في تحقيق حلمه بالتصفية التامة لقضية فلسطين أرضاً وشعباً ومصيراً؟!
|