الراصد لكافة المشاهد الأدبية والسياسية والفكرية، يشد انتباهه ذلك التثوير المتعمد لقضايا قتلت بحثاً، وتفرق أهلها أيدي سبأ، والناجون منهم لا يقولون إلا معاراً أو معاداً من القول. والمصيخ لنجوى المختانين أنفسهم، يرتاب من استدعاء القضايا المحنَّطة، وبعثرة أوصالها على يد كُتاب لا يعرفون من الأشياء إلا رسمها ولا من الأفكار إلا اسمها، ولا يدرون كم تحت السواهي من الدواهي، ونكارة الاستدعاء أنه يأتي في ظروف بلغ فيها السيل الزبى، وطمع في مثمنات الوطن من لا يدفع عن نفسه، حتى لقد همّ الشجي أن يصيح: (إذا كنت مأكولاً فكن خير آكل وإلا فأدركني ولمَّا أمزق) ومثل هذا التثوير والاستدعاء مؤشرٌ على سوء التوقيت والتقدير. فالعقلاء المدَّكرون المدركون للعواقب المشؤومة، يتخولون الظروف المناسبة والأجواء الملائمة، ولا يدفعون بأطياف الأمة إلى بؤر التوتر، ومضائق التلاحي، ومقترفات التنافي. وكل رفيق مشفق على تماسك أمته، حريص على وحدتها الفكرية وترابط جبهتها الداخلية، له في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة. فهو لا يمارس عمله الدنيوي ولا اجتهاده الشخصي إلا بعد الاستخارة والاستشارة، وهو مع المقترفين من الرحماء، لمعرفته بالضعف الإنساني، حتى أنه يفرق في المساءلة بين أقوياء الإيمان وضعفائه، كما في قصة الثلاثة الذين خلّفُوا. وهو كذلك يفعل في الأعطيات، كما في أحداث (غزوة حنين) وكما يفعل مع المؤلفة قلوبهم حتى لقد أصبحوا من أهل الزكاة، وهم الذين أسلموا، ولم يؤمنوا، أو الذين يعبدون الله على حرف. وهو في الحدود يندب إلى الستر، ويتوخى التلقين ب(لعلك قبَّلْت..)، ويلوم الدافعين للاعتراف بالذنب والحائلين دون التراجع عنه. وهو لا يريد مواجهة الأخطاء التي يقع فيها أصحابه أو مصاحبوه من المنافقين، مخافة أن يقال: إن محمداً يقتل أصحابه، وهو في المواقف الحرجة يجنح للسلام واللين ورأب الصدع. وما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما. وفي الإسلام فسح (الاتقاء) وقبول (الإكراه) مع اطمئنان القلب بالإيمان، و(العدول) عن سبّ معبود الآخر إذا ترتب عليه سبّ للذات الإلهية عدواً بغير علم، وأحسب أنه من الانتهازية والمزايدة الرخيصة التهافت على القضايا المختلف حولها، وتحويلها إلى حدِّيات صارمة، وما ذاك إلا لتصور البعض أن الرياح تهب لصالحهم، وأن مثلهم كمثل المرخي عمامته الذي استغاث به (أبو حرزة):
(يا أيها الرجل المرخي عمامته هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا) |
وكأنهم بهذا التهافت يغتنمون الرياح قبل أن تسكن. وإذا حُفَّت الأمة بالأعداء المتربصين، واستبطنت بفئات ضالة مضلة، وكيلت الاتهامات الجائرة لمناهجها، وقادتها، وحركتها الإصلاحية، ودعاتها، ومؤسساتها الإسلامية، وإسهاماتها الداعمة للأقليات وللمراكز الإسلامية، فإن واجب حملة الأقلام أن يهبوا للدفاع عن بيضتها، وإن لم تطاوعهم أنفسهم، فلا أقل من الصمت، وذلك أضعف الإسهام. ومن البلية أن يلح البعض في التنقيب عن القضايا المعترك حول مشروعيتها، والممكن تأجيلها، وبخاصة ما يود الأعداء اختراق سيادتنا من خلالها، وأن يتذرع مُنْكُئو الجراح بدعوى الإصلاح، سواء في ذلك ما يتعلق بقضايا السياسة أو الدين أو المجتمع أو الفكر أو الأدب أو غيرها من الدعاوى التي تبدو في ظاهرها الرحمة، وبعض هذه المقترفات مظنة الاتهام بالمواطأة. إذ ما الفرق بين كاتب يعمم في الاتهام، ويوغل في التشكيك، ويتشفى بالتنقص، ويحمِّل المبادئ مسؤولية الممارسة، وإعلام مغرض يروِّج التهم ذاتها. أهذا من باب وقوع الحافر على الحافر؟، أم هو من باب كلُّنا في الهم غرب. ومع الشنآن لهذه الخلائق، فإن العدل والمصداقية تحملاننا على عدم الجزم بالاتهام، لكن الشنشنات لا تخلصنا من هاجسه. والذين يتعشقون نبش المسكوت عنه، وضرب السوائد المشروعة، والتحريض على قطع الصلة بالماضي، ووصل الحبال بأفكار الآخر وأخلاقه لا بعلمه وأشيائه (التقنية) ثم لا يحترمون مشاعر (الرأي العام)، إما جهلة أو مغرضون. والرسول صلى الله عليه وسلم احترم (الرأي العام)، وقدره قدره، حين دخل مكة، وفكر بإعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، ولم يمنعه من ذلك إلا أن قومه كانوا حدثاء عهد بكفر، ولو كان مصير الأمة مرتبطاً بتغيير البناء لفعله، ولم يبال. والمملكة حين قامت بتوسعة الحرم المكي الشريف، أبقت على (مقام إبراهيم)، مع ما يشكله من عقبة في المطاف، وأبقت على (أروقة الحرم) التي بناها الأتراك، مع أنه من المصلحة العامة إقصاء (المقام) وإزالة (الأروقة). وكل القادة والعلماء والمفكرين الناصحين لعقيدتهم الرحماء فيما بينهم يرفقون بمشاعر العامة، ولا يتعمدون الاستفزاز، وبخاصة حين تكون الأوضاع غير ملائمة، أو حين تكون القضايا من الثانويات المؤجلة. وهل أحد لديه أدنى شك في سوء الأوضاع العالمية، وعدم احتمالها لمزيد من نشر الغسيل. والمخلصون المجربون من يتفادون استدعاء أي قضية لا تشكل عائقاً لمسيرة الأمة، إذا كان في استدعائها إثارة للخلاف أو الخوف، وليس من المصلحة ضرب الرؤوس بعضها ببعض، وتأزيم المواقف بين فئات الأمة، والتمتع بصخب التكسير، مهما كانت العوائد. وجمع الكلمة مقدم على كثير من المصالح العامة، ومقدم على كل المصالح الفردية. وفي الحديث الصحيح (إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها) قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: (أدوا إليهم حقهم واسألوا الله حقكم) وقال في حديث آخر: (من كره من أميره شيئاً فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية)، وإذ نحمد الله على أن الخلاف لا يمس العلاقة بين الأمة والقيادة، فإن استدراج الرأي العام قد يقحم السلطة في الأزمة، وقد أقحمها في كثير من القضايا الثانوية، فضلاً عن الأولوية، والتناوش الصحفي يكاد يحتنك الهيبة والاحترام المشروعين. ولحرص المصطفى صلى الله عليه وسلم على وحدة الأمة وتماسكها نهى عن المنازعة وأمر بالسمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر والأثرة، وألا ينازع الأمر أهله، ولكنه مع حرصه على جمع الكلمة، ولمّ الشمل، لم يترك الأمر على إطلاقه، بل حدد مسوغات الخروج بالقول أو بالفعل على ولي الأمر الجائر أو المخالف، بقوله: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان) وانظر إلى عدد من اللطائف التعبيرية التي غابت عن كثير من الناس: كقوله: (تروا) ولم يقل (تسمعوا) وربط الكفر (بالبواح)، وهو الظهور والمجاهرة، إذ ما خفي أمره إلى الله، وربط (البرهان) بالله دون غيره من العلماء، وأجمل اللطائف قوله (برهان) ولم يقل (دليل) ذلك أن (البرهان) لا يكون حتى يكون النص قطعي الدلالة والثبوت، فيما يأتي (الدليل) بنص احتمالي الدلالة والثبوت. فإذا اختلف العلماء حول الدلالة أو الثبوت، فلا برهان. وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسير أعلام الأمة مليئة باللين والرفق والرأفة ودرء الحدود، وإقالة ذوي الهيئات عثراتهم، وكل من أطلق لقلمه ولسانه العنان في القضايا المختلف فيها والمسكوت عنها والمثيرة لمشاعر العامة لم يتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم ولا سلف الأمة قدوة له. ومن المصميات ألاَّ يتوفر المزايدون على أدنى حد من المعرفة، وأشد من هذا وذاك التعالم، والتسلط، والتزكية، وشرعنة الفعل، ووصم المخالف بالتخلف، ووصف الصدمة الحضارية بالإعجاب البشري المشروع. والذين يحيلون إثاراتهم على الإصلاح والنصيحة والتصحيح، يغالطون أمتهم، فما من عالم ناصح أو مفكر واعٍ إلا ويحمل همّ الإصلاح والنصح والتصحيح. ولكن الإصلاح لا يكون بالتعالق المطلق مع الآخر، ولا يكون بالاقصاء والاستعداء، ولا بإدانة المبادئ، ولا بتحريف المفاهيم، ولا يكون في قلب الحقائق، ولا يكون بالتشايل مع الإعلام الخارجي المغرض، ذلك أنه إعلام موجه، لا يريد بالأمة إلا الضعف والفساد والتناحر. وهل عاقل يتصور أن أعداء الأمة يريدون لها القوة: المعنوية والحسية؟ وكيف يودون ذلك؟. والقوة المعنوية متمثلة بالإسلام الذي عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبوحدة الأمة الإسلامية بكل فرقها ومذاهبها، والقوة الحسية متمثلة بأمر الله {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}، وما من عاقل مجرب أو متابع حذر يتصور قبول الصهيونية العالمية المتحكمة بوسائل المال والإعلام، ومن يشاركها الهمّ، ويشاطرها المسؤولية باستكمال القوتين: قوة الاقتداء والوحدة، والإعداد. وهل ما نتلقاه من الغرب بطوعهم واختيارهم يحقق لنا التوفر على القوتين؟ وهل حضوره العسكري والسياسي والإعلامي في مشاهدنا العربية والإسلامية ينطوي على خير للبلاد والعباد؟. ومتى سلمنا بسوء نواياه، وجب علينا أن نتخلى عن أي جدل يفضي بنا إلى الشقاق والتنازع. ومع أن الحق أبلج، فإن مصلحتنا في الكف عن منازعة الأقوياء، ما لم تضطرنا الأوضاع المتردية إلى قتال الدفع، ومتى اضطررنا إلى فك الاختناقات، فإن علينا الدفع بالتي هي أحسن، والجنوح للسلام، واتقاء الأقوياء المتغطرسين بالقدر المباح من التنازلات، {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ}. وإذا كانت بوادر حضور الغرب في مشاهدنا لا تبشر بخير، فلماذا نبشر به، ونطرد الغربة عنه، ونطمئن إليه، ونحتفي برموزه من فلاسفة ومفكرين لا يقيل استدعاؤهم عثرة الأمة، ونهيئ للمعتدي الأجواء الملائمة لجمع الغنائم وطول البقاء، ولماذا نضيق بالمحذرين والمتحفظين على وجوده المطلق، ولماذا نخلط بين الإرهاب والمقاومة، وإسلام اللعب وإسلام السلف؟ ولماذا نبادره بإثارة القضايا التي يخادعنا بها؟ وتلك الإثارات تمهد الطريق له. لقد بدت نواياه ليس فقط من لحن القول، وإنما بدت من مباشرة الفعل والاحتلال المعلن بالقوة. ولسنا بمواقفنا المتحفظة نجهل قيمه ومنجزاته، ولا نحول دون الأخذ مما عنده، فحضارة الغرب منطوية على إيجابيات كثيرة، يستأثر بها وحدة، ولا يجود بفضله الكأس على من ظلوا يتغنون بأمجاده، وهو يشرب. والمدنية بادية للعيان في أنظمته، وتعليماته، واحترامه للدساتير والقوانين، وسعيه الدؤوب في مناكب الأرض للحرث والزرع والصناعة وبناء المعامل والمختبرات والمؤسسات التشريعية والتنفيذية القوية المحْكمة الصنع والمحَكَّمة في الشؤون العامة والخاصة. ومن المؤكد أن ديننا يحثنا على اقتباس ما صلح من كل الحضارات، والسير في مناكب الأرض، والبحث عن المنافع الدنيوية، دون النظر إلى مصادرها، متى كانت عامل قوة واستغناء، ذلك أنها من ضوالّنا، وكثير مما عند الغرب من مقطوع وممنوع يعد من ضوالنا. فهل جاد طائعاً مختاراً بشيء منها؟. وهل أخذنا نحن بأحسنها؟ بل هل خلاَّ سبيلنا حين نمارس ما يحيينا، ويقوي جانبنا؟، وماذا استفدنا منه بطوعه أو ببراعتنا منذ (حملة نابليون) حتى (حملة بوش)؟. وهل شيء من أوامر الإسلام ونواهيه يحول دون تحقيق ما حقق الغرب من ظاهر الحياة الدنيا؟ بحيث نفكر في التحول عن ثوابت ديننا وهل قضايا المرأة وحدها التي تبني منصات الانطلاق لآفاق المعارف؟. والفرائض الغائبة، تتمثل: في جلب علمه، لا في جلب مدنَّيته، وجعله موضوعاً خاضعاً للمساءلة والانتقاء، لا مهيمناً يفيض علينا بما يحفظ لنا أدنى حد من العيش الذليل، ولا يسمح بوجود مستقل، لا يركن إليه، ورب عيش أخف منه الحمام. ومن الفرائض الغائبة تخاذلنا وعجزنا عن الاستفادة من جوانب حياته الجادة المنضبطة، وتخاذلنا وعجزنا عن تمثل الإسلام قولاً وعملاً. ومع التأكيد على أخذ الحذر وتوخي المفيد فإن من الأجدى والأهدى مصالحته ومعايشته ومبادلته المنافع، والحذر من تقديم مبادئنا وقيمنا وعقيدتنا قرابين لاسترضائه. وقبل ذلك وبعده، يجب أن نعرف كيف نصطلح مع بعضنا، لتكون لنا كلمة واحدة في المحافل الدولية، تدرء عنا انتهاكاته الموجعة. وها نحن نطيل القول في التوفر على أدبيات الحوار مع الآخر، ولم تحن منا التفاتة لنرى حجم التردي في حوارنا مع بعضنا. فهل نحن واثقون من نجاحنا في الحوار الذاتي؟ وهل يصلح الحوار مع الآخر، ونحن شيعّ يضرب بعضنا سمعة بعض، بل قد يضرب بعضنا رقاب بعض؟.
|