عندما كنت مديرا للتعليم بالرياض وبالتحديد قبل 20 عاماً راجعني في المكتب شاب طموح تحدّى إرادة والده وطلب مني أن أساعده في إقناع والده ليواصل دراسته الثانوية، واتصلت بالأب وطلبته أن يزورني في المكتب وتم اللقاء وسألته لماذا يمنع ابنه من مواصلة التعليم؟ فقال ذلك الأب: التعليم لا فائدة منه وأريد منه ان يساعدني في الحياة. ورفضت مقولة الأب وتدخلت في ذلك الشأن العائلي وواصل الابن تعليمه ومضت الأيام ثم دوّنت ذلك الموقف بالتفصيل في كتابي (بوح الذاكرة) بعد ان تقاعدت من العمل الرسمي وبعد نشر تلك الذكريات فوجئت ذات يوم بشاب طويل القامة يحمل رتبة عسكرية متقدمة ويؤدي لي التحية ويكرر لي الشكر ويقول: أنا بطل قصتك التي نشرتها في ذكرياتك. لقد كنت السبب في حملي لهذه الرتبة العسكرية ولقد نجوت بالتعليم من الانحراف ونجوت بالتعليم من الفقر ونجوت بالتعليم من الضياع وكونت أسرة وفتحت بيتاً وأنجبت أبناءً. تذكرت هذه القصة وأنا أقرأ مقالاً نشرته جريدة الوطن بعنوان (التعليم خطر على المجتمع) في 18-5-1426هـ وتساءلتُ: ماذا لو أخذنا بهذا الرأي الذي يتفق مع موقف ذلك الأب؟ لا يا سادة.. التعليم نورٌ والتعليم نهرٌ يتجدد وكلما زاد التعليم زاد الاستقرار وزاد المال وانمحى الفقر. فالتعليم هو الذي أنقذ ذلك الطالب الذي صار ضابطاً وتعليمنا هو الذي صنع كاتب المقال المذكور، فلو أن الكاتب توقف عند دراسته المتوسطة أو الثانوية لما سال قلمه ولما جاد فكره. وتعليمنا هو الذي أنجب العقول التي تقود الوطن في كل الميادين الشرعية والسياسية والتربوية والطبية والاقتصادية وغيرها. يا سادة ماذا لو أن الدولة لم تنفق على التعليم تلك المليارات؟ أكنا نباهي بأساتذة جامعاتنا العريقة؟ وهل كنا نباهي بأطبائنا المهرة؟ وهل نتيه بمثقفينا ومفكرينا؟ ثم أين تعلمت العقول التي تقود الوطن؟ لا يا سادة لا تجلدوا ذواتكم وفاخروا بإنجازات وطنكم وتحدوا العالم كله بأنه لا يوجد طفل ولا طفلة في المملكة دون مقعد دراسي وفاخروا ببرامج التعليم العالي التي اصبحت تتطور وفق احتياجات التنمية ولا تسيروا خلف أقوال الحاقدين الذين يشكّكون في فكر الأمة ومناهجها وفي ثوابت الوطن وأسسه، وتعلّموا من التاريخ، فوجود فئة ضلّت الطريق وانحرفت عن المنهج لا يعني اتهام تعليمنا. إن التاريخ يعلمنا ان مقتل عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم لا يعني اتهام مدرسة النبوة، والتاريخ يعلّمنا ان الأمم الواثقة بذاتها هي التي تفوز وتقود ولا يعني هذا الجمود. فنحن نريد المزيد من التطور والمزيد من المراجعة للكثير من البرامج وهذا شأن الامم الواعية، ونريد المزيد من الإنفاق، والمزيد من المشاريع التي تخدم التنمية. ويقيني أن صناع القرار يعون ذلك ويعملون على ذلك، وما هذه الجامعات الجديدة، وتلك الاعتمادات المالية الضخمة لبرامج التعليم التقني إلا دليل على الفهم العميق عند صناع القرار.
* عضو مجلس الشورى
|