Tuesday 21st June,200511954العددالثلاثاء 14 ,جمادى الاولى 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "مقـالات"

سفك الدماء ب(نيّة حَسَنة)سفك الدماء ب(نيّة حَسَنة)
أنور عبدالمجيد الجبرتي

المثل الإنجليزي يقول: الطريق إلى الجحيم (مُسَفْلت) ب(النوايا الحسنة) وأن مرتكبي الأخطاء الوطنية والقومية والإنسانية يعلنون- مقدماً- قائمة طويلة بالأهداف النبيلة، ويفصحون عن قائمة أطول من (النوايا الطيبة).
ولم يسبق أن أعلن طاغية، أو مجرم وطني أنه سيِّئ النيّة، أو سيِّئ القصد، أو أنه يريد تدمير الوطن، أو إرهاب العباد.. بل وكثيراً ما خلع هؤلاء المجرمون القوميون والوطنيون على أنفسهم، وفي الوقت الانتهازي الملائم، ثياب النزاهة، والورع، واستخدموا كل شعار نبيل ليبرِّروا به جرائمهم، وعلَّقوا كل (يافطة) مضيئة على سجونهم، ومراكز اعتقالاتهم، و(معامل) تعذيبهم.
- إن (عِلْم) الطغيان، علم قديم، وأصول الاستبداد عريقة، ضاربة بجذورها في التاريخ الإنساني، وأدبيات الهلاك، و(تكنولوجيا) القهر والتعذيب عتيقة ومتطورة. والتاريخ الإنساني، أفراداً ومجتمعات، سلسلة طويلة، لا تنقطع، إلا قليلاً، من طغاة، ومستبدين، وجائرين، وظالمين.
وإذا كان جانب الشر في النفس الإنسانية ظاهراً في معاملات الأفراد مع بعضهم، فهو أكثر ظهوراً، وأعظم وضوحاً في الإطار (الجمعي) للتاريخ البشري؛ فالأفراد يبدون دمويين، وقساة، عندما تغلب نزعات الشر في طبائعهم، فيعمدون، أفراداً إلى التنكيل ببعضهم البعض. ولكن الدموية، والقسوة، تكون أعتى، وأشد، عندما يستبد الشر (الجماعي) بهم، وتسيطر النزعات السوداوية عليهم، فيصبحون سيلاً جارفاً من الطغيان، والهمجية، والوحشية، فإذا استحكمت غريزة القطيع الدموي، كانت عاصفة مدمرة، يصعب تصورها، أو شرحها، أو تبريرها.
ذلك السيل الجارف الوحشي، وهذه العاصفة الدموية، يصل ذروته عندما يتصدر قيادته (جزار محترف)، بارد الأعصاب.
وتاريخ الدم البريء المهدر، والإنسانية المنتهكة النازفة، هو باختصار تاريخ جماعات، أو تجمعات بائسة دموية هائجة، يقودها (جزار ماهر)، لكي تخوض في دماء، وأموال وأعراض، جماعات بائسة أخرى، والبقية، تفاصيل كثيرة، ليس أقلها أهمية، وإن كان أعظمها قرفاً، وتقززاً، إطلاق الشعارات البريئة، وتعليق (اليافطات) المضيئة، وزعم (النوايا الحسنة).
ومهارة الطاغية، وحذاقة الأنظمة المستبدة الجائرة التي يتزعمها تتبدى في القدرة على حضانة هذا الشر الجماعي، وتعهده بالتربية والرعاية، واستثارته، وتهييجه، وإدارته، وتوجيهه، وهذا فن أدرك بعضاً منه الطغاة القدماء، والممالك البائدة، ولكنه وصل به إلى درجة الاتقان، وقريباً من درجة الجمال، الطغاة المحدثون، وأنظمة الاستبداد الحديثة والمعاصرة.فباسم الخير الأعظم للأمة الألمانية، ذات الدماء النبيلة والأعراق النظيفة، أدار (هتلر) عجلة دمار كونية هائلة، حصدت عشرات الملايين من البشر، وأضاف لتكنولوجيا الطغيان والقهر (أفران الغاز) ومعسكرات الاعتقال الشهيرة وأحاط (هتلر) كل ذلك الدم، والنار، والقهر، بموسيقى جميلة، وبتنظيم جيد مثير للإعجاب، وبمذهب إعلامي ودعائي بارع، وتركه إرثاً خبيثاً لكل طاغية ومستبد يأتي من بعده. وأعانه على ذلك، جمع دموي حاشد وكبير.
وباسم الكفاءة الإنتاجية والعدالة الاجتماعية، استحدث العم الشهير (ستالين) نظام المزارع الجماعية في (الاتحاد السوفيتي)، فاستأصل بذلك شأفة المساكين من صغار المزارعين، ونشر الجوع والقحط والموت وأطلق كلاب الحزب المسعورة، ومَفْرَمة الدولة الحادة النصال ليقضي على عشرين مليوناً، أو يزيد، قتلاً، وجوعاً وهلاكاً في الصقيع (السيبيري)، وأعانه على ذلك، جمع دموي حاشد وكبير.
وباسم (الثورة الثقافية الكبرى) وإعادة النقاء إلى المبادئ والممارسات الثورية، قاد الجد الشهير (ماو) (محاكم التفتيش)، في ميادين الصين وجامعاتها، ومصانعها، وحقولها، وقضت ملايين عديدة نحبها في السجون وفي الطرقات، وأرسلت ملايين أخرى كثيرة إلى معسكرات (التأهيل) و(التأديب). تيتم ملايين الأطفال، وثُكِّلت ملايين الأمهات، وترمَّل ملايين الأزواج والزوجات. وأعان (ماو) على ذلك جمع دموي حاشد وكبير.
وباسم (صربيا) الكبرى، و(كرواتيا) العظمى، استيقظ (المشهد الأوروبي المعاصر على (معسكرات اعتقال) بدائية الإعداد.وهناك بالطبع (رواندا)، (كوسوفو) و.... القتل في (كمبوديا) وسهول القمع في (كوريا الشمالية)، وهناك (زائير)، وهناك الحكم العنصري البائد في (جنوب أفريقيا)، طغاة حازقون، يعلنون المبادئ النبيلة، ويفصحون عن (النوايا الحسنة)، ويحكمون المنطق البارد الكئيب وتعاونهم في ذلك، جموع دموية حاشدة وكبيرة.
(النوايا الحسنة)، معلنة، لكنها زائفة، كاذبة. و(الزعيم)، ذكي لكنه دموي، وشرير. والجموع بائسة خانعة، ولكنها متعطشة للدماء جاهلة، ومخدوعة.
هذا هو (كوكتيل مولوتوف) التاريخ الحارق الذي لم يخطئ، أبداً في إهداء الإنسانية، عبر تاريخها الطويل، حفلات الدم، والدمار وأنظمة الطغيان، والاستبداد!!.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved