المبادرات المباركة يجب أن تذكر فتشكر؛ إذ هي من قبيل السنة الحسنة التي يُكتب لمن سنها من الأجر مثل أجور من عمل بها إلى يوم القيامة. وهذا الحديث وارد في باب القدوة الصالحة في باب الصدقة والدلالة عليها. نحن هنا أمام أنموذج مبارك جمع بين إحياء سنة الوقف وتربية النشء عليه، وكذا إعانة فئة من المجتمع والسعي لتهيئة الحياة الشريفة لهم تربوياً واجتماعياً ونفسياً وعلمياً.. في نسيج واحد يحقق الأخوة الإسلامية الحقيقية. يشارك في هذا الجهد المبرور وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد وكذا وزارة التربية والتعليم برعاية حانية من جمعية الأطفال المعوقين ورئيس مجلس إدارتها صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز. كل هذا يبرز بجلاء للمتأمل ما جاء في الشرع المطهر من التكريم المطلق للإنسان في روحه وجسده.. وما تقرر من أن الإعاقة لا تعيب صاحبها ولا تنقص من قدره، بل عاتب الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - في إعراضه عن الأعمى {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءهُ الْأَعْمَى (2)} سورة عبس. ورفع الحرج عنهم كما في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ (61} سورة النور. ومن دقيق العناية بذوي الاحتياجات الخاصة ما ورد من الإسرار بالحمد على العافية عند رؤية المبتلى بذلك مراعاةً لمشاعره وحفاظاً على نفسيته. كما سبق المسلمون عملياً إلى رعاية شؤون هؤلاء، إذ أنشأ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ديواناً كان من أهدافه تقديم العون للمستضعفين. وكانت الأوقاف هي من أهم الروافد التي تسند كل سبيل يحصل به إعانة هؤلاء المستضعفين، وكما تنوعت الأوقاف كما يقول جابر - رضي الله عنه -: (لم يكن أحد من أصحاب محمد ذا مقدرة إلا وقف) فكذا تنوعت الجهات الموقف عليها ومن أبرزها في تاريخ المسلمين (المارستانات) وهي كلمة فارسية معناها دار المريض، تكلم عن بعضها ابن بطوطة وذكر أن الوصف يعجز عنها, وذكر أن بعض مدن المسلمين بها أوقاف على تعلم الطب وتعليمه وكذا الصيدلة والتأليف فيها ونحو ذلك. حتى بلغت المستشفيات نحو خمسين مستشفى في المدينة الواحدة. وقد ذكر ابن جبير أن من أغرب ما شاهده من مفاخر البلاد الشرقية لدى المسلمين الاهتمام بالأيتام والأبناء ممن لهم حاجة خاصة كمرض ونحوه، وذكر أن العلاج فيها بالمجان للمحتاجين بل كان العلاج يصل إلى بيت من يعجز عن الوصول إلى المستشفى. كما ذكر ابن جبير في رحلته وعند مروره ببغداد وجود حي كامل يشبه المدينة الصغيرة كان يسمى (سوق المارستان) يتوسطه قصر فخم جميل وكبير تحيط به الغياض والرياض والمقاصر والبيوت المتعددة وذكر أنها كلها أوقاف على علاج المرضى، وقد كان يقصدها المرضى وطلبة الطب والأطباء والصيادلة ومن يُقدمون الخدمات الطبية، وذكر ابن جبير أنها كلها جارية من أموال الأوقاف، بل ومن أجمل وأروع ما ذكروا من الوقف على الرعاية النفسية للمرضى ما نبه إليه الأديب الكبير مصطفى السباعي لما ذكر أن من أعجب ما أقاموه في باب الأوقاف الرعاية الاجتماعية والنفسية للمرضى؛ إذ وُجد وقف مخصص ريعه لتوظيف اثنين يمران بالمارستان يومياً فيتحدثان بجانب المريض حديثاً خافتاً ليسمعه المريض عن احمرار وجهه وبريق عينيه بما يوحي بتحسن حالته الصحية. أ. هـ. ولعل هذا من قبيل البرمجة العصبية الإيجابية التي لاحظها المتقدمون في أوقافهم.. إذ لم يقف اهتمامهم بالأوقاف الطبية فحسب بل اهتموا بأدق تفاصيلها كالاهتمام بجانب الصحة النفسية ونحوها، بل نقل السباعي أن منهم من وقف ميزاباً يسيل فيه الماء الذي أذيب فيه السكر، وآخر يسيل فيه الحليب للأمهات ليأخذن ما يحتاج إليه أطفالهن منه. ومن صور الإحسان المنقولة عنهم في باب الأوقاف.. ما نقله بعضهم من الإحسان إلى دوابهم الزمنة من خلال إقامة أوقاف لرعايتها وعلاجها. ولا عجب من هذا الإحسان العظيم؛ إذ دين الإسلام يدعو إلى الإحسان في كل شيء.. وهو الذي منع صيد أم الفراخ وشدد على من يفجعها في ولدها. وكذا منع حبسها عن الطعام والشراب، بل دعا إلى الإحسان في أشد صورة وأعظم حال.. وذلك عند الذبح والقتل.. فأمر بالإحسان عند ذبح البهيمة ونهى عن أن تحد الشفرة أمامها. أيها القراء الكرام.. إن هذا العطاء المتجدد، والبرنامج المبارك.. يعيد شيئاً من أمجاد ظاهرة الوقف وخدمتها للمجتمع بجميع أفراده... ولو لم يكن من هذا البرنامج إلا ما تحقق من تربية للنشء على البذل والعطاء وحمل هم إخوتهم المحتاجين لكفى.. كيف وهو مع ذلك كله أكبر داع للأغنياء والأثرياء للمساهمة في أفعال الخير وأنواع الصدقة الجارية وفتح باب الأوقاف التي لا تنقطع بانقطاع مثل هذه البرامج.. بل هي نماذج لأعمال خيرة متعددة في الصحة والتعليم وغيرهما من حاجات المجتمع التي يجب أن يلتفت أهل اليسار للوقف عليها، علماً بأن مثل هذه البرامج ليست عوناً لثلاثة آلاف معوق فقط كما في إحصائيات الجمعية بل هي عون لأكثر من ثلاثة آلاف أسرة من أسر أولئك المعوقين. ومما يجب التنبيه عليه أن من كان أشد حاجة كان تقديمه هو الأولى، إذ إعطاء الفقير المعوق أولى من إعطاء الفقير المعافى تحقيقاً لمبدأ سد حاجة الأولى. وقد جاءت في فتاوى اللجنة الدائمة 9-463 ما نصه: (لا مانع من الاستفادة من أموال الزكاة فيما يتعلق بالمعوقين الفقراء وبالله التوفيق) وذلك جواباً عن سؤال حول إعطاء الزكاة لجمعية رعاية الأطفال المعوقين مع كون غالبية من ترعاهم الجمعية من أسر فقيرة. وفي النهاية أزجى الشكر أعظمه والدعاء أخلصه لصاحب المعالي الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ وهو رئيس اللجنة الشرعية المشرفة على هذا البرنامج - لا حرمهم الله من الأجر وعظيم الثواب. كما الشكر موصول لصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان وهو صاحب السبق والفضل في اقتراح هذا البرنامج.. كما له جهد مبارك في ضبطه، كما قال سموه: (الجمعية تضمن توفير كل الجوانب الشرعية لتلك الأوقاف مع وجود آلية الرقابة المالية بحيث توجه مساهمات الخير إلى الأوقاف المحددة من قبلهم). بارك الله في الجهود وسدد على دروب الفضيلة الخطى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
|