حين أصدر الكاتب الإسلامي الشَّهير يوسف العظم كتابه صغير الحجم كبير المعنى (محاضن الجيل المسلم) قبل أكثر من ربع قرن، ناقش فيه مؤثرات التَّنصير في المجتمعات المسلمة وأوضح فيه مدى هذه المؤثرات في بنية البيت المسلم بأفراده بدءاً بالمحضن الذي هو الأم وانتهاءً بالبيت والمجتمع. إذ في الوقت الذي حافظت فيه محاضن التَّنصير على تعويض الفقد باحتضان فكري وسلوكي كان من شأنه جذب الإحساس في دخيلة الواقعين تحت التأثير في المجتمعات المسلمة التي خضعت للوجود المسيحي فيها ولمفكري ومهندسي التَّوجهات العقدية والفكرية بحيث تمَّ وجود المحضن من جوانبه المختلفة (حضن مدرسة)، و(عمل)، و(بيئة حياة)، قدمت للفرد كلَّ أنواع المؤثرات ليرتمي فيها منبهراً بالفكرة، والقدوة، والسلوك، وأسلوب المعيشة، ونمط الملابس، وطريقة التَّعبير والتَّفكير، في الكثير واليسير من أمور الحياة.. إنَّ أوَّل الأمور الواقعة تحت التأثير التَّنصيري هي محاضن الأمهات، وإن أوَّل ما يهزّه الواقع فيها هي ركائز السنوات الأولى من عمر الإنسان حيث تنشأ البنية النَّفسية له و(الوجدانية) والفكرية والإدراكية على وجه التَّحديد، جاء كتابه في ذلك الوقت مؤكداً على كلِّ ذلك الملموس في المجتمعات المسلمة العربية التي كان لها ثقلها في تصدير العناصر البشرية الفاعلة في حركة التعليم والعمل والتَّخطيط بل الأمن والتربية في المجتمعات العربية الأخرى. هذه العناصر المتأثرة بدعاوي تحرير المرأة، والمطالِبة بأن يكون لها سبق التَّنابز على مراكز القوَّة في مجالات العمل خرجت فيها النساء للعمل ليس بهدف أن يكون العمل هو مصدر بناء وتطوير ودعامة حياة وبلورة طاقات واستقطاب كفاءات واحتضان احتياجات وتسديد ثغرات، ولا بهدف أن يكون الثاني في الضرورات ولا يقف الأول في الأوَّليات للمرأة التي تلد مساءً ليكون هو أوَّل ما تستقبل به صبحها نهاراً..، بل لأن يتحقق عنه وفق المؤثِّرات التَّنصيرية ما يساعد تلك الأهداف على تقويض بنية البيت المسلم لينشَّأ العنصر البشري بعيداً عن محاضن (الأمان)، الذي هو ركيزة النفس والعقل والوجدان والروح في الإنسان. فالطفل الذي تتلاقفه الأيدي، وينتزع في أول أيامه من محضن الأمّ الأمّ تتوازعه ريح الاضِّطراب والقلق وتجعله في هشاشة نفسية وخور داخلي لا يقوى معه أن يكون مُعدَّاً لحياة سليمة ولا لعطاء سليم إذ سيكون بشخصية لا تتحقق عنها هذه (السلامة) لفقدها الإحساس (بالأمان) منذ المحضن. ذكَّرني بهذا الأمر الدَّقيق والمهم، قرار مجلس الوزراء الذي تصدَّر صفحات الصحف بمنح المرأة ثلاث سنوات بمرتب لا يتجاوز ربع دخلها على ألاَّ يقلَّ عن ألف وخمسمائة ريال تواجه به إجازة أمومتها التي فيها تكون المحضن الأساس للطفل. ومن ثمَّ يتأهل لأولى خطواته نحو مدارس ما قبل الابتدائية تأخذه إليها بيدها بعد أن تكون قد بنت وجدانه، وأسَّست قوامه، وركَّزت دعائم دخيلته. قرارٌ حكيمٌ.. يجيء ضمن تطوير آليات الحركة الاجتماعية الواعية، في زمن أدرك فيه الجميع ما للمحضن الأساس من دور في توطيد أوَّليَّات المرأة كما وظَّفها خالقها وأسند إليها بحكمته تعالى تلك التي لا تناهضها حكمة بشر.
|