دخلت (أم أحمد) على ابنها في غرفته تذكره بموعد الساعة التاسعة مساء، إذ يجب أن يوصلها إلى بيت (أم ليلى) حيث سيكون لقاء الخميس لهذا الأسبوع. قالت (أم أحمد) لابنها: (لا تنس أنه ليس لي أحد يوصلني إلى بيت (أم ليلى) غيرك!!)، رد عليها (أحمد): (طيب.. طيب) بطريقة باردة حتى يتجنب أي حوار ممكن أن يفتح بينه وبين أمه، فيمنعه من التركيز على الشاشة التي أمامه، لكن أمه لم ترقها هذه الطريقة فصرخت فيه قائلة: (يا ابني كلمني كلما أكلمك.. أنظر إلي وأنت تكلمني!!)، ضغط (أحمد) على بعض الأزرار الموجودة على اللوحة التي أمامه، ثم التفت إلى أمه قائلا: (يا أمي لو تشترين لك كمبيوتر مثل هذا، وتأتين باشتراك الإنترنت، أحسن لك من صديقاتك المملات، الآن يمكنك التعرف والتحدث مع أصدقاء من مختلف أنحاء العالم وانت جالسة في مكانك، أما إذا كنت لا ترضين لصديقاتك بديلا!! فيمكن أن تشتري كل واحدة منكن كمبيوتر وتتحدثن مع بعض في أي وقت بواسطة الإنترنت، حتى ترتحن وتريحوني من مشاوير الخميس كل أسبوع)، لمست أمه في كلامه نبرة استهزاء، فردت عليه بلهجة حازمة: (الساعة التاسعة تكون جاهزا)، ثم تركته وخرجت متجة إلى غرفتها لتبدأ بتجهيز نفسها للموعد. عند الساعة التاسعة كانت كل الشلة قد اكتملت في بيت (أم ليلى)، كانت (هبة) ابنة (أم نزار) تحمل حقيبة كبيرة نسبيا خاصة أن موضة الحقيبة اليد الدارجة الآن هي الحجم الكبير، وقد عرف عن (أم نزار) وابنتها مسايرة آخر صيحات الموضة!! لفتت انتباه (أم رامي) التي سألت أمها بعد أن انصرفت الفتيات إلى الصالون الثاني: - أم رامي: (هل البنات الأيام هذه عندهن امتحانات!! أرى أن (هبة) تحمل معها حقيبة المدرسة؟!). - أم نزار: (طبعا لا!! لو كانت كذلك لما كانت رافقتني اليوم، أما الحقيبة فهي لكمبيوتر محمول فابنتي تفضل أن تقضي أغلب وقتها في العمل عليه، وتقول إنها تريد أن ترى (ليلى) شيئا على الإنترنت) كانت تقول هذه الكلمات وهي تبتسم ابتسامة غريبة! لا نعرف هل هي استهزاء من جهل (أم رامي) أم افتخار بالاختراع الذي تحمله ابنتها؟! - أم أحمد: (ذكرتموني بما قاله ابني (أحمد)، يقول لماذا لا تشتري كل واحدة منا كمبيوتر ونتواصل بواسطة الإنترنت!!). - أم رامي: (وهل تواصلنا بواسطة التي قلتيها! سيكون أحسن من تواصلنا بواسطة الهاتف؟ إن أهم شيء في اللقاء هو الحب والدفء الذي لا يمكن أن نحسه إلا من خلال وجودنا مع بعض). - أم أحمد: يا (أم رامي) أنا لا أقول لكن ذلك لأخذ رأيكن فيما قاله ابني! بل أقوله من باب النكتة). - أم نزار: (بصراحة الحمد لله على اختراع الكمبيوتر واكتشاف الإنترنت، حيث أصبح الشباب يشغل وقته بأشياء مسلية ومفيدة، تبعدهم عن التسكع في الشوارع، أو الجلوس في المقاهي التي تجمع أنواعا مختلفة من الناس، فمثلا ابني (نزار) لا يخرج من البيت إلا نادرا ويقضي أغلب الوقت أمام الكمبيوتر، وهذا كان من الصعب تحقيقه مع واحد في مثل سنه!). - أم ليلى: (ولكن وجوده أمام الكمبيوتر ليس آمناً ومفيداً في كل الأحوال!! فالكمبيوتر والإنترنت بالذات، من الممكن أن يكون فيهما ضرر كبير بقدر ما ممكن أن يكون فيهما فائدة ونفع لشبابنا.. إذا كنا نخاف زمان من أن يخرج أبناؤنا إلى الشارع ويلتقوا بأشخاص سيئين، فإننا الآن من حقنا أن نخاف أكثر! وأصبحت مسؤولياتنا أكبر! فعلى الأقل من قبل كنا نعرف أنه إذا خرج أحد الأبناء فإنه لا يستطيع أن يبتعد كثيرا على المنطقة التي نسكن فيها، لكن الآن من خلال الإنترنت، أصبح العالم كله عبارة على قرية صغيرة، فبواسطتها يمكن لأي شخص أن يتحدث مع أشخاص من كل أنحاء العالم في نفس الوقت، ولا يتطلب ذلك أي مجهود، بكبسة زر يمكن أن يجالس ابنك رفقاء السوء في بيتك وأنت جالسة مطمئنة لأنه منعزل في غرفته أمام هذا الاختراع الذي يعتبر رمزا من أهم رموز التقدم العلمي والتكنولوجي في عالمنا الجديد، كل البضائع تروج من خلال الإنترنت، الصالح والطالح). - أم نزار: (طيب.. كيف يمكن أن أعرف إذا كان أبناؤنا يأخذون الصالح أم الطالح من هذا الجهاز الملعون؟ أنا لما أعود إلى البيت سأكسره..لو سمحتي يا (أم ليلى) نادي لي ابنتي (هبة) أيد أن أعرف لماذا تحمله معها أينما ذهبت؟!!). - أم أحمد: (الله يسامحك يا (أم ليلى) شككت (أم نزار) في أبنائها.. بالعكس أنا ألاحظ أن ابني يستفيد كثيرا من الإنترنت، فأنا أذكر أنه حصل على أهم البحوث التي كان يحتاجها في مشروع التخرج بواسطة الإنترنيت، وأذكر أنه قال لي إن عملا مثل هذا كان يتطلب من الطلبة التنقل من مكتبة إلى مكتبة، ومجهوداً شاقاً، ومصاريف كبيرة، دون أن يصل إلى النتيجة التي أصبح الطلبة يصلون إليها بواسطة الإنترنت، كما أنه يحكي لي عن بعض المعاقين الذين أتيحت لهم فرص العمل دون أن يتحركوا من أماكنهم، فأصبحوا يوصلون بضاعتهم للناس بواسطة هذا الاختراع المذهل!!). - أم ليلى: (أنا لا أقول إن مجال الإنترنت كله سيئ، ولكن أقول إنه ليس آمنا، خاصة على الشباب في سن المراهقة، يجب أن تكون هناك مراقبة وتوعية مكثفة، حتى نجعل أبناءنا يستفيدون من منافعه ويتجنبون مخاطره.. (هبة) جاءت بكمبيوترها معها لأنها تعلم من ابنتي (ليلى) أنني لا أدعها تستخدم الإنترنت من دون أن أكون موجودة معها). - أم نزار: (يا دكتورة (أم ليلى) كم مرة نقول لك لو سمحتي، لما تكونين معنا لا تنسي أنك مع صديقاتك الجاهلات، ولسن زميلاتك في الجامعة!! كيف يمكنني أن أراقب أبنائي وتوجيههم في مجال لا أفقه فيه شيئا؟؟!!). - أم ليلى: (لذلك قلت لكن إن مسؤولياتنا أصبحت أكبر، فمن قبل لم يكن هناك فرق شاسع بين الظروف التي عايشها آباؤنا في شبابهم والظروف التي عايشناها نحن في شبابنا، فكنا إلى حد ما يمكن أن نقتنع بما ينصحون به، من منطلق أنهم أكثر خبرة في الحياة، لكن الآن كيف يمكننا أن نجعل أبناءنا يثقون فيه نقوله لهم وهم يعرفون أكثر مما نعرفه نحن؟! إن هناك أشياء كثيرة في هذا العصر الأبناء يعلمونها للآباء! والاكتشافات تهطل على رؤوسنا متتالية، وبسرعة كبيرة، حيث نكون ما نزال لم نفهم الكمبيوتر فيظهر عالم الإنترنت، والقنوات الفضائية والهاتف المحمول والكمبيوتر المحمول..). - أم رامي: (والله أظن أن على الحكومات أن تفتح لنا فصول محو الأمية التكنولوجية، كما تفتح فصول محو الأمية للقراءة والكتابة!!). كانت تقول هذه الكلمات ويدها داخل حقيبتها تتحسس الأشياء، لتخرج الهاتف المحمول الذي كان يرن بداخلها، ثم ردت عن المتصل قائلة: (نعم عزيزي.. الساعة كم؟!.. طيب.. طيب). أنهت المكالمة ووقفت تحمل حقيبتها مستعجلة، وكانت تنظر إلى الساعة التي تلبسها حول معصمها لتتأكد من الوقت، ثم قالت بأسلوبها الساخر الذي اعتدنا عليه: (اليوم (أم ليلى) أكلتنا تكنولوجيا حتى التخمة! تعرفن كم الساعة الآن؟!). نظرت كل الحاضرات إلى أقرب ساعة متوفرة، ثم قالت (أم ليلى) مستغربة: (الواحدة والربع!!.. يوه.. آسفة العشاء جاهز من فترة، لكننا انشغلنا بالكلام). - أم رامي: (يجب أن أذهب الآن، (أبو رامي) ينتظرني في الخارج). - أم ليلى: (عيب يا (أم رامي) لا يمكن أن تذهبي قبل أن تتعشي معنا.. يمكن ل(أبو رامي) أن يدخل ليتعشى مع (أبو ليلى)). استمر النقاش بين (أم رامي) و(أم ليلى) حتى أقنعتها بأن تبقى لتناول وجبة العشاء، التي كانت تتكون من أصناف متعددة تستحق الانتظار. في هذه اللحظات كانت (أم أحمد) تتصل على ابنها ليأتي لاصطحابها بعد نصف ساعة، أما (أم نزار) فقد كانت تجلس مطمئنة، فهي دائما تأتي برفقة سائق خاص، ويجلس في انتظارها بالخارج طيلة فترة وجودها بأي مكان.
مريم هاشمي |