كل من في هذا الكون يعلم ما للقصة من دور بارز في إحياء هذه الروح، وتحريك ذلك العقل الباطن ففيها من العبر، والأدلة على مقدرة الله تبارك وتعالى على كل شيء، وبها من البراهين، والمؤشرات على أن التوفيق والرزق بيد الرزاق العليم وحده دون سواه. وفي ثنايا هذه القصة بصيص أمل لكل من ابتلاه الله بالفقر المدقع، والحاجة الملحة، وهذا تقدير الله عز وجل لبني آدم؛ فمنهم من يكون فقيرا، ولكنه صابر محتسب لا يبالي في ترهات هذه الحياة؛ فإن حصل على مال تصدق به، وهو مبتسم الثغر راضي القلب لتوفيق الله له؛ ليكون معينا لغيره من المحتاجين فلله دره وما أسعده بوافر الأجر، ومنهم المحتاج البعيد عن الله الساخط بتقدير الله له؛ فحسرته في الدارين، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قصتنا تحكي عن رجل بسيط، وموظف صغير في القطاع العسكري للدولة، استمات حتى قبل في هذه الوظيفة التي فرح بها فرحا شديدا؛ لأنه بأمس الحاجة لها، فظروفه قاسية، فقد توفي أبوه، وترك هذا الابن في حفظ الله يرعى اخوته، وأمه، لم يكن ذلك فقط؛ بل رزقه الله بامرأة، وأطفال فزاد الحمل حملين، وزادت المسؤولية أضعافا كثيرة، ففي أثناء ذلك حاول أن يجد سبيلا آخر للرزق، ففكر في الأراضي العقارية، فادخر ما استطاع أن يدخره، فاشترى أرضا بقيمة خمسين ريالا، فذهب مسرعا ليبشر أهله، وليخبرهم بهذا الخبر السعيد؛ فقوبل بما لم يتوقع! قالت له أمه: هل أنت مجنون يا فلان؛ كيف تضع أموالك في التراب، وفي شيء لا قيمة له، أما الزوجة فكانت أكثر عتابا من أمه، فقالت: نحن الآن بأمس الحاجة لهذه الأموال، وأنت تصرفها في صحراء قفر، فضاقت عليه الأرض مما لاقى فصمم، وعزم على بيعها في الحال، ولكنه وقع في مصيبة لم تكن في الحسبان، عرض هذه الأرض للبيع، فلم يقبلها أحد، وعندئذ قرر أن يتركها بعد أن فقد الأمل في بيعها، وفي هذه الأثناء صدر أمر عسكري، يقضي بنقل هذا الموظف البسيط إلى مدينة بعيدة جدا عن مدينته الأم فاستجاب وشاء الله أن صاحبنا يجلس كامل مدة خدمته في تلك المدينة، وهو وكامل أسرته، مدة تزيد على أربعين سنة تقريبا، فاستقر في تلك المدينة سنوات طويلة حتى وصل إلى السن القانونية للتقاعد، وطلب منه عندئذ الرجوع إلى بلدته الأم؛ ليكمل أوراق التقاعد، ليعيش بقية حياته هو وأهله على معاش التقاعد. وفي هذه اللحظات تذكر صاحبنا أرضه التعيسة، ففكر أن يبحث عنها، فقد كبرت المدينة، وضاقت، وتشققت ممن فيها من السكان، والعمران، وتلك أبراج طوال، وتلك أسواق تعج بالمتسوقين، ظل صاحبنا يبحث عنها حتى وجدها - فلله الحمد - ومن عقليته الفذة تلك الأيام أن أخذ ما يثبت أنها له، فلله الفضل والمنة. فكر أن يعيد المحاولة الماضية في بيعها، فتم له ذلك في مجلس للقهوة؛ فسئل صاحبنا عن سعر أرضه تلك، وهو يريد بيعها بأسرع وقت أنت أيها المشتري من يعطيها السعر فقال المشتري: هل ترضيك 6 ملايين ريال، ففتح صاحبنا فمه، وتكورت عيناه، ووقف شعر رأسه، من هول ما سمع، وقال - وهو غير مصدق -: انتظر حتى أخبر زوجتي، وأخبر زوجته، فأخذت زوجته تصرخ بأعلى صوتها وقالت: ماذا تتنظر؟ يا مجنون سلمها له في الحال قبل أن يموت. فذهب صاحبنا للمشتري في الحال، وقال له وهو مرتبك: إن هذا المبلغ لا يكفي فأخذ الرجل شيكا وصرف لصاحبنا 11 مليون ريال عدا ونقدا فأخذها مسرعا، واول ما فعل، اشترى سيارة فارهة فذهب إلى زوجته، وأركبها معه في السيارة، فلما ركبت قال لها - في كبرياء من المجنون -: الآن يا أم فلان. فقالت وهي ناكصة رأسها: أنا مجنونة، وأولادي مجانين، وكل من في البيت مجانين، إلا أنت يا حبيبي! وفي الختام نقول: (سحابة صيف عن قليل تنقشع)
معيدي سعود معيدي الريس الجوف (دومة الجندل) |