كنت قد حددت ثلاثة مكونات رئيسية لأزمة التعليم الجامعي وثالث هذه المكونات القصة التي أصبحت موازية لسيرة أبي زيد الهلالي من حيث التكرار والإضافة والتعديل بما يقتضي واقع الحال. ذلك أنه لا يكاد يخلو مجلس أو نقاش بين ذوي الشأن من إيراد هذه القصة، والمضمون واحد وإن اختلفت الرواية. وموضوع القصة هو أوضاع هيئة التدريس في الجامعات المادية والمعنوية، التي لم تعد قادرة على إبقاء الحاليين منهم ضمن الحرم الجامعي فضلاً عن استقطاب كوادر جديدة. ومصدر المشكلة هو النظرة إلى الأستاذ الجامعي على أنه موظف عادي يؤدي عملاً يمكن للكثيرين أداؤه وعوضاً عن الواحد يمكن أن نجد العشرات وربما المئات ونجد من يكابر - منطلقاً من هذه النظرة - أن لا مشكلة لدينا فالكثيرون يتهافتون لأن ينضموا إلى هذه الشريحة، ولا أحد يرغب في ترك مكانه. ولكن الواقع لا يصدق هذه المقولة أو التصور، فأعداد الخريجين الذين يمكن اختيار معيدين منهم لا يكادون يعدون على أصابع اليد الواحدة سنوياً في القسم الواحد، وتكاد تمر السنون ولا يوجد أحد يجدون أمامهم عدداً من الفرص الوظيفية كلها أفضل من الإعادة في الجامعة سواء من حيث الراتب أو المزايا النقدية والعينية الأخرى، والفرق في الراتب - على سبيل المثال - لا يقاس بجزء من المائة وإنما بمضاعفاتها. والسبب واضح، وهو التنافس على استقطاب البارزين في تخصصاتهم. أما إذا اختار الانضمام إلى سلك التدريس الجامعي، فإنه بعد المكابدة والعناء لسنوات طويلة في الدراسة والبحث يفاجأ براتب أقل من الراتب الذي عرض عليه بعد تخرجه من الجامعة مباشرة، وهذا الراتب لا يتجاوز (30%) من راتب زميله في جامعات بعض الدول المجاورة ويصل في أخرى إلى (50%). لا أحد يجادل في أن مصدر قوة الجامعات والسمعة الجيدة يكمن في نوعية أعضاء هيئة التدريس العاملين بها وما هو متاح لهم من إمكانات. وعندما تكون مطالبة بتحسين الأوضاع المالية لهم، فإن هذا لا يعني المطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية لشريحة من الموظفين، وإنما يعني بالدرجة الأولى الاستثمار في الارتقاء بمستويات الجامعات وسمعتها. وعندما يضعف الإقبال على التدريس في الجامعات أو تزداد أعداد المتسربين، فإن الخاسر هو الجامعة والمجتمع وليس عضو هيئة التدريس أو من هو مرشح لأن يكون كذلك. وعليه وحتى نضمن استقطاب الكوادر الجادة ونجفف منابع التسرب؛ فإن الواجب هو الارتقاء بأوضاع أساتذة الجامعات المالية والمعنوية إلى الدرجة التي تحيد الإغراءات الكبيرة المتاحة لهم وتلغي أثرها تماماً، وربما استدعى ذلك - على سبيل المثال لا الحصر - زيادة في رواتبهم الحالية بنسبة (100%) أو أكثر، انطلاقاً من أن القصد ليس تحسين أوضاعهم المعيشية بقدر ما هو الاستثمار في بناء رواد للمجتمع في مجالات حياته المختلفة والارتقاء بمستويات الجامعات وأن مهمتهم لا تنحصر في مجرد التدريس وإنما هي أشمل من ذلك وأوسع وبالتالي فإن العائد المادي الذي يقبضونه لا بد أن يكون متناسباً مع الجهد الذي يبذولونه ومع درجة ندرتهم في المجتمع والتنافس محلياً وخارجياً لاستقطابهم. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن من الأمثلة التقليدية لدى الاقتصاديين على ما يسمونه بالآثار الخارجية الموجبة المكاسب التي يوفرها أساتذة الجامعات نتيجة قيامهم بعملهم الرسمي، وهذه خدمات يوفرونها بشكل غير مقصود لكن المجتمع يحتاجها، ومتى لم تؤخذ هذه الخدمات في الاعتبار عند تحديد العائد المادي، فإن ما يوفر منها سيكون أقل مما يحتاجه المجتمع. ولذا وجب أخذها في الاعتبار عند تحديد العائد المادي حتى يحصل المجتمع على القدر المناسب منها. على أن الارتقاء بمستويات أعضاء هيئة التدريس المادية والمعنوية يظل جزءاً من منظومة أشمل تتلخص في العمل على استقطاب الكفاءات العلمية المؤهلة سواء كانت مواطنة أو أجنبية.
|