قبل ما يزيد على خمسة وعشرين عاماً مع نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات الميلادية وعبر صفحات هذه الجريدة، نعم جريدة (الجزيرة) هذه، طرح على صفحة (عزيزتي الجزيرة) سجال اجتماعي مبكر حول قيادة المرأة السيارة. وعلى خلاف السجال الذي انطلق من جريدة (الجزيرة) أيضاً في موضوع (إصدار بطاقة هوية مواطنة للمرأة السعودية) في منتصف التسعينيات الميلادية الذي توج بقرار رسمي يعطي للمرأة حق استصدار بطاقة أحوال مدنية تعرفها وتعترف بها كمواطنة فإن سجال قيادة المرأة السيارة قد توقف دون أن يعني ذلك - على ما يبدو - توقفه كهاجس اجتماعي مشروع خاصة مع تزايد الحاجة الاجتماعية التي تلح وتستدعي إعادة طرحه ليعاد نقاشه ويعاد النظر فيه. والملاحظ أن كلاً من السجالين سجال قيادة السيارة وسجال بطاقة الهوية لم يخل من التوتر حيناً والموضوعية حيناً آخر في أساليب الطرح والمناقشة؛ نظراً لتضارب الآراء مع أو ضد كل من تلك القضيتين. وإذا كان اشتداد وتيرة ذلك التوتر وتحوله في بعض الأحيان إلى حالة من التجريح الشخصي أو التشنج كان يعبر عن وجود ظاهرة من التعصب الأعمى فإن فتح باب التحاور في حد ذاته أمر لا بد منه لتعليمنا أساليب الطرح الموضوعية، وإن كان لا بد من القول إن هناك من ينظر دون تجنّ كبير لسجالنا حول ما يعد من البدهيات في مجتمعات أخرى بكثير من الاستغراب وكأننا من كوكب آخر لم تصله بعد وسائل الاتصال مع كوكب الأرض ولسنا سلالة الحضارة العربية الإسلامية التي شاركت الأمم في حمل مشعل العلم والحرية والفكر. وعودة إلى سياق مطلع المقال فإن من يرجع إلى أعداد مجلة (اليمامة) قبيل افتتاح مدارس البنات عام 1960م وقبل القرار الرسمي بضم المرأة إلى قافلة التعليم النظامي بالمملكة العربية السعودية، كما فعلت ذلك قبل عدة أعوام بهدف أكاديمي لبحث كنت أقوم به في تتبع التغير الاجتماعي بمجتمعنا السعودي منذ إعلان تأسيس المملكة عام 1932م بعد توحيد أرض هذا الوطن الشاسع والمتعدد حضارياً وجغرافياً على يد الملك عبد العزيز، يمكنه أن يرصد ظاهرة مشابهة لكل من السجالين المذكورين - سجال قيادة المرأة السيارة وسجال بطاقة الهوية؛ فقد كانت هناك آراء معارضة لتعليم المرأة تصل إلى درجة التعصب وكأن تعليمها سيشكل تهديداً لاستقرار المجتمع ولأمنه. وكانت هناك آراء مؤيدة بل داعية لتعليم المرأة فكان هناك من يرى في تعليم المرأة حقاً شرعياً لها يجب إلا تحرم منه بل يرى في استمرار حرمانها من ذلك الحق ما يلحق الضرر بالمجتمع وبإمكانية تطوره. أذكر تلك الحالات من السجال فيما يتعلق بقضايا المرأة في المجتمع السعودي، ويحضرني ذلك التساؤل الذي كثيرا ما نواجهه من الصحافة العالمية وعلى وجه التحديد الصحافة الغربية: لماذا تعتبر قضايا المرأة في المجتمع السعودي ترمومتر التحولات الاجتماعية؟ لماذا وحدها المسائل المتعلقة بالنساء هي مثال الجدل في المجتمع والتي ترتفع فيها الأصوات وتظهر فيها الانقسامات وتتعدد فيها المواقف بينما لا تكاد تظهر تعددية الآراء ودفاعية المجتمع في القضايا الأخرى مثل قضايا الاقتصاد وقضايا الإنتاج وقضايا توطين التكنولوجيا وقضايا الاستهلاك وقضايا التخطيط والسكان والتنمية وقضايا الماء والصحة والتعليم والعمل والحريات العامة والمشاركة السياسية والاجتماعية وقضايا الرأي والعلاقات الخارجية أو سواها؛ فمعظم هذه القضايا بحسب أسئلة تلك الصحافة تمنح فيها الحكومة ثقة مطلقة بحيث ليس لها إلا أن تفصل وللمواطن أن يلبس بشكل ينمّ عن حالة تسليم وتناغم وانسجام لا يبدو فيه أي تعارض أو تعدد في الآراء، بينما عندما يتعلق الموضوع بالمرأة وإن كان الأمر لا يزيد على إدخال تغيرات طفيفة لتفعيل موقعها في المجتمع أو لرفع ظلم تاريخي قد تكون تعرضت له حتى قبل تأسيس المملكة مثل الفتوى الأخيرة بمنع الحجر والعضل إلا وتظهر المعارضة وتحتد الاختلافات وقد تثور حفيظة البعض بشكل ينحي باللائمة على المجتمع ويصبّ جامّ غضبه على من يخالفه الرأي ولا يتورع عن الانتقاص من أهلية النساء بدعاوى تتنافى مع الشرع والعلم معاً كدعوى ضعف أو قصور المرأة. فهل تحتل النساء ذلك الموقع الرمزي في الوجدان الجمعي لدرجة أن تصبح النساء الجبهة الوحيدة التي يباح فيها وعليها الاختلافات أو الائتلاف؟ هل يعجز المجتمع عن المجاهرة بالتعدد والاختلاف بدون التذرع بالنساء؟ هل النساء مجرد موضوع ولسن عضواً عاملاً في القضايا المطروحة على بساط السجال؟ غير أني وإن كنت أرى من وجهة نظر سيسيولوجية ضرورة طرح بعض أمثال تلك التساؤلات للكشف عن الأسباب والعوامل التي تجعل قضايا المرأة تحديداً مثاراً للجدل على حساب الخفوت أو التنصل من القضايا الأخرى وبما يعتم على الأبعاد المجتمعية والإنسانية والحقوقية الخاصة بموضوع النساء، فإنني على مستوى التعامل صحفياً مع تلك الأسئلة وخاصة على صفحات صحافة أجنبية غالباً ما أحيل السائل إلى الجوانب الإيجابية لوجود هذا النوع من السجال. فعلى سبيل المثال قلت لصحفي من إحدى الصحف الأجنبية المرموقة عليك حين سألني عن ظاهرة السجال في القضايا المتعلقة بالنساء تحديدا، أن تقرأ التاريخ الاجتماعي لمسارات ذلك السجال؛ فبينما كانت المرأة في سجال التعليم غائبة أو شبه غائبة وكانت مجرد موضوع لذلك السجال والجدل فإن عدداً من النساء السعوديات اليوم يشاركن في تحريك مقود السجال، وليس مقود السيارة بعد، وذلك لتوجيه السجال إلى وجهة منتجة تنصف المرأة السعودية ممن يريدون أن يكونوا أوصياء عليها سواء كانوا من الرجال أو النساء. وهذه الإجابة التي تحاول أن تتحلى بالدبلوماسية فلا تتيح لمن يريد أن يصطاد في الماء العكر أو يتصيد علينا بعض الأخطاء لحشرنا في خانة العداء للحرية أو لحقوق الإنسان، حين أدلي بها فإنني صادقة ولا أحملها محمل المراوغة مع الطرف المحاور لأنها في رأيي تشير إلى نصف الكأس الملآن أما النصف الفارغ من الكأس فليس لي ولا لسواي أن نزعم أننا لا نراه وبالتالي فإن واجبنا الوطني أن نملأ فراغه بأيدينا وبما يعبر عن أهلية النساء والرجال في صنع خيارات المستقبل. فلا نصير كما تقول شاعرة عربية: (نصف نيام ونصف عوام وكل لا يكل عن اعتلاف الكلام). مصاب عفيف
على أن المفارقة أنه في الوقت الذي نطالع فيه انشغال البعض بالدفاع عن حق المرأة في القيادة والمقصود هنا قيادة السيارة فمن النادر حتى بين المتعاطفين من يتحدث عن قيادتها مواقع اجتماعية في حياتها وفي حياة أسرتها ومجتمعها من منطلق اقتصادي أو اجتماعي أو إنساني أو لجميع تلك المنطلقات، نرى انشغال بعض آخر بتأجيج المشاعر بشكل أقل ما يقال عنه إنه غير عقلاني لعرقلة هذا المطلب وإظهاره بمظهر الخطر الداهم، فيما يستمر مسلسل (كوارث مقتل النساء على الطرقات في حوادث السيارات التي يسوقها رجال) دون أن ينظر للمسألة في سياق الطرح الخاص بأي من طرفي السجال في موضوع (قيادة المرأة السيارة) أي سياق حقوق النساء أو (الخوف على النساء) وكذلك يستمر مسلسل موت النساء في حوادث السيارات إلى المدارس دون أن تعلن جهة - ما - مسؤوليتها عن الحادث أو بالأحرى مجموع الحوادث التي ذهب ويذهب ضحيتها عدد من المعلمات ممن يجدر أن نسميهن شهيدات العلم. والسؤال الذي لا بد أنه يتحشرج في حناجر عدد كبير من المواطنين وهم يبتلعون دموعهم على تقصف تلك الزهرات من بنات الوطن وهن في ريعان العمر وشرخ العطاء هو: أما آن الأوان لوضع نهاية لهذا الخطر الداهم الفعلي وليس المتوهم الذي تواجهه المعلمات وهن في طريقهن من وإلى العمل؟ وإذا كان ليس لكائن من كان أن يستعيد لأطفال صغار حنان وابتسامة أولئك الأمهات اللواتي خطفتهن يد المنون في غبش الفجر أو حرقة الظهيرة على طرقات نائية تنقصها نقصاً فادحاً إجراءات السلامة وفي عربات غير معدة إعداداً ملائماً فإنه بالإمكان تلافي توسع دائرة اليتم بين أبناء المعلمات وإغلاق ملف تلك الفجائع الوطنية. وهذا ممكن فقط لو أن الجهات المعنية بالموضوع امتلكت الشجاعة لتعلن عن مسؤوليتها عنه ووضعت خطة عمل متكاملة للقضاء على الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى استمرار مسلسل مقتل النساء على الطرقات سواء تعلق الأمر بالعمل العاجل على تهيئة طرقات تتوافر لها شروط السلامة المرورية من حيث تعدد مساراتها وتعبيدها وإضاءتها وتزويدها باللوحات الإرشادية وبنقاط أمن الطرق والإسعاف أو من حيث وضع الحلول العلمية لمعالجة الرحلات المكوكية للمعلمات يومياً التي قد تزيد ساعات الذهاب والإياب لبعضها على ست ساعات. إن مصاب عفيف هو مصابنا جميعاً نساءً ورجالاً وأطفالاً ووطناً، وإذ لا نملك إلا أن نسأل الله للفقيدات عظيم الثواب على تضحيتهن ولأسرهن أجمل الصبر وحسن العزاء فإننا نأمل أن تتكاتف الجهات المسئولة وتضع حلاً عاجلاً جداً جداً جداً يجعل فاجعة العفيف خاتمة الأحزان. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|