لدى بعض العوام فهم خاطئ للعملية التعليمية برمتها، حيث يرى البعض أنها تعتمد بالدرجة الأولى على الحفظ والتفريغ، وهذا المبدأ في الواقع غير صحيح إطلاقاً، لأن العملية التعليمية من وجهة نظر بعض المتخصصين تقوم على مبدأين أساسيين ألا وهما القضاء على الأمية واختيار فئة معينة تساهم في انتشال أي مجتمع ورفعه إلى مصاف الدول المشار إليها بالبنان. ولهذا قامت كثير من مناهج الدول المتقدمة على هذا الأساس. قد يستغرب القارئ العزيز إذا قلت إن المعلم في الدول المتحضرة لا يمثل إلا 10% من بين الفئات الأخرى العاملة بالمدرسة، أي بمعنى أنهم أقلية مقارنة ببقية المهن الأخرى داخل المدرسة، حيث تجد كماً هائلاً من المتخصصين كإخصائي التغذية، الإخصائي النفسي، الإخصائي الاجتماعي، الممرض، إخصائي تعليم السلوك، المتخصص في تعليم السباحة، المتخصص في الإلقاء وفن الخطابة، إخصائي حاسب...إلخ (هذه المهن ليست موجودة في المدارس الأهلية فحسب بل الحكومية أيضاً). ودعوني أضرب لكم مثالاً من واقع الممارسة خلال البعثة لأبين لكم كيف أن الطلاب عندهم شغوفون بالمدرسة وحب الانتظام، وأنتم عليكم الحكم في الأسباب التي جعلتهم كذلك. أتذكر أنني عندما كنت اوقظ أطفالي في الصباح الباكر للذهاب إلى المدرسة كان أول سؤال يسألونني إياه وين احنا رايحين، المدرسة العربية أو الإنجليزية؟ فإذا قلت العربية ترى النكد والتثاقل واضحاً على محياهم بينما العكس عندما يتعلق الأمر بالمدارس الأجنبية، ولكم أن تسألوا أنفسكم لماذا هذا السلوك المتناقض في كلتا الحالتين؟ طبعاً سيجيب البعض بالقول لأن هناك تسيباً بالمدارس الأجنبية، وهذا غير صحيح، صدقوني ان خوفهم (الطلبة) من معلمي المدارس الأجنبية أكثر بكثير من المدارس العربية، ليس لأنهم يستخدمون العنف مع طلبتهم (يمنع الضرب بالمدارس الأجنبية منعاً باتاً)، ولكن للتعزيز والترغيب اللذين يستخدمانه في تلك المدارس، ولأن المدارس الأجنبية تترك الطفل يتعلم بعيداً عن الترهيب بالضرب أو الضغط للحصول على الدرجات. وكنت بالمصادفة شاهدت (مشهداً تلفزيونياً) عن التعليم في بريطانيا قبل خمسين سنة. تخيلوا أن النظام لديهم في ذلك الزمان شبيه إلى حد كبير بنظامنا التعليمي الحالي، زخم مواد، تلقين يعتمد على الحفظ والتفريغ وترهيب يصل إلى استخدام العنف الجسدي، وفي نهاية هذا المشهد وزع استفتاء على الآباء والأمهات وكذا الطلبة يسألهم عن رأيهم في هذا الأسلوب التربوي، وهل يتمنون بقاءه؟ وقد استغرب الجميع أن النظام التربوي قبل خمسين سنة كان بهذا الأسلوب، وكيف للناس في ذلك الزمان أن يقبلوا مثل هذا النوع من التربية، إنها أشبه (بثكنة عسكرية) كما قال أحدهم، وأضاف أنه لن نرضى في هذا الزمان بمثل هذا النظام. وعندما تنظر إلى دول بدأت هذا النظام وأوقفته وتقارنها بدول لا تزال تمارسه إلى وقتنا الحاضر، تجد أن هناك فرقاً فيما بينهما من حيث التقدم والتصنيف العالمي، حيث لا تزال تلك الدول المتمسكة بهذا النظام تصنف ضمن دول العالم الثالث بينما تلك التي تخلت عنه وغيرته بنظام تربوي حديث تصنف ضمن الدول المتقدمة في شتى مناحي الحياة. ولعلنا نشاهد بأم أعيننا ما يحدث هنا وحولنا بالوطن العربي من حالة استنفارعندما يأتي موعد الامتحانات وكأننا في حالة (حرب) بينما المخرجات التربوية لا تزال كما هي منذ عشرات السنين، يشوبها الكثير من القصور في شتى مناحي الحياة، بل إنك تحس أن الطالب لم يعلق في ذهنه حرف واحد من ذلك الزخم الهائل من مناهجنا. ولعلي هنا أستشهد بحادثة يكررها أبناؤنا الطلبة كل عام ولم نلق لها بالاً، ألا وهي تمزيق الكتب بعد انتهاء الاختبارات، بل إن الملاحظ على بعض الطلبة في السنين الأخيرة لا ينتظر لنهاية العام حتى يتخلص من الكتب، بل إنه يمزقها مع نهاية الفصل الأول، وكأني به يقول لن أحتمل هذا العبء لأربعة أشهر قادمة. ولو فطن المتخصصون إلى هذا السلوك وحللوه نفسياً لوجدوا أن له معنى ومغزى، بل إنه يعتبر من وجهة نظرهم انتقاماً من هذه الكتب وما سببته لهم من متاعب سواء جسدية أونفسية. ولما طلب مني الزميل المحرر كتابة مقالة عن المخاوف الناتجة عن الاختبارات، فكرت ملياً وقلت في نفسي لا داعي لأن أعيد نفس الموال كل عام وأوجه نصائحي للطلبة وأقول لهم الاسطوانة المعهودة: خليكم هادين، لا تشربوا المنبهات، ناموا بدري، قوموا بعمليات استرخاء قبل الدخول للاختبار، كل هذه الأمور أحس أننا نكررها، ولذا فإن رسالتي هذه المرة ستكون موجهة إلى وزارة التربية والتعليم بأن تخفف علينا من الضغط النفسي السنوي الذي يعاني منه الآباء والأمهات قبل الطلاب، إننا كآباء وأمهات وطلاب بحاجة إلى وقفة صادقة لنتخلص من هذا الضغط السنوي المتكرر، ولي رجاء لكل مسؤول بهذه الوزارة أن يسأل نفسه سؤالاً بسيطاً هل السنوات الماضية عززت الأهداف التي من أجلها أسست هذه الوزارة؟ وعليه يجب اختيار السبيل الذي يضيء الطريق أمامنا للحاق بتلك الدول التي سبقتنا بمئات السنين.
(*) دكتوراه في الاضطرابات النفسية الناتجة عن سوء معاملة الأطفال وإهمالهم رئيس قسم الخدمات النفسية بمجمع الأمل للصحة النفسية بالرياض |