المجتمع الذي يعاني توترات نفسية حادة نتيجة ثقافة حادة وذات وجه واحد، هو نفسه الذي يواجه نسائم للانفتاح المرن بحدة أيضاً، وكان علينا ألاّ نصبّ اللوم على هذه الأحادية في الثقافة حين جاء يومها بالحساب العسير وتفشت أمراضها الموبوءة، وطالت المثقفين وغيرهم، فهم الآن يواجهون إعصاراً حاداً لثقافة أحادية أخرى تتجه نحو أقصى اليسار فلا تترك خلفها أي ذرة من مبادئ القيم الروحية والأخلاقية. ألوان هذا المخاض الواحد لم تنثر كما تنص عليه عادة وواقع الاختلاف، وإلى هذه اللحظة، وحين وقعنا على رؤوسنا من جراء صدمة العنف والتطرف الفكري، فإنّنا كنا ننظر إلى نشأة الإرهاب وتفكير الإرهاب ومحدودية التصنيف في الغلو، لكنّنا أيضاً استيقظنا على غلو آخر وتصنيف لا يشاطره أي مؤدلج آخر سوى التحرُّر الممسوخ والذي لا يعدو كونه تحللاً من دون وازع أو رقيب ذاتي وهو المهم والفاعل دائماً في معظم المجتمعات المتحضرة. غياب هذه الحالة من التوازن بات سمة تغلب على جلّ مواضعينا، ولن أتحيّن الفرص الموائمة لأحيل هذه المقالة إلى نقاط سرد مما قرأته معكم لآراء غاية في السوداوية، الأصولية والليبرالية معاً. أحدهم يرى - مع الأسف - أنّ شرب الخمر حالة لا تستدعي التأثيم، ويرى أنّ القرآن الكريم لم ينزل لها عقاباً صريحاً، وتجاهل تحريمها بالمرة، لأنّ شارب الخمر في نظره ليس أكثر من بريء فار من هموم يومه وعيشه الطفران، وآخر يذكر النبي صلى عليه أفضل الصلوات والسلام في مقالة فلا يصلي عليه كأنّه يصف رجلاً عادياً وليس خيرة البشر وسيد المرسلين، وفئة أخرى تدّعي أنّها وصية الله على خلقه فتقذف امرأة محصنة لمجرد ظهورها بحجابها وتدعو عليها بأبشع الصفات ما قامت وما قعدت، وغيرهم يكفرون سواهم لمجرد تناولهم قضية حيَّة لا يحق لأحد التطرُّق إليها غيرهم، ويدخلون خلواتهم ويلوكون أعراضهم ويقحمونها في ما ليس لها به شأن، وهناك من ينعتون الناس بألوانهم ومقاماتهم العرقية التي نبذها الإسلام الذي يدّعون الانتماء إليه. حالات كثيرة، بعضها تأدلج حتى النخاع ويصعب انتزاعها، وبعضها الآخر يصيب المتلقي بالدوار والغثيان، والحقيقة التي تبدو بعيدة جداً عن العقول المتأرجحة في جدالها تبدو هي الأخرى حائرة، من يصل إليها، وماذا يمكن للرسالة التعليمية والثقافية أن تؤديه إذا كان النصاب في الحالتين قد بلغ ذروته، وباتت المسألة برمتها تعاني من احتقان بغيض نسي فيه معظم الأطراف أنّهم ينتمون إلى ثقافة دينية تميل إلى الوسط، والمعقول والمرن، والواقعي، وأنّ هناك ما يسمى المسافة بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، هي حق مكفول للجميع للتحرُّك داخله بأسباب وسيطة وإنسانية مقنعة ولا تتعارض مع ديننا الإسلامي السمح!.
|