ثقافة (الأتوموبيل) تبدأ عند خط التجميع، وليس خلف عجلة القيادة. * وثقافة (الديموقراطية) تبدأ في الحارات الضيقة، والقرى الصغيرة الحالمة، وفي البيت، والمدرسة، ودكان البقّال، وحانوت الجزار، وبائع الخضروات، وكل (المحليات) المتناثرة وليس تحت قُبَّة (البرلمان) المهيبة وعلى مقاعده الأنيقة، وفي صُحبة النُّخب المثقفة الأنيقة، التي تتقن صياغة الجُمل البليغة، والمناظرات الفضائية الأنيقة، والتصريحات الصاخبة. وفي مجتمعاتنا، التي أتقنت فن (الاستيراد) وتخلفت عن مشوار التصنيع بجهده، وعرقه، وثقافته، تبدو (الديموقراطية) غريبة الزَّمان، والمكان، كما يبدو (الأتوموبيل) مخلوقاً، شارداً في غير سربه يعاني من الغربة في الشوارع، والحيرة عند التقاطعات، هائجاً، مكتئباً، خطيراً وقاتلاً. * (الأتوموبيل) سلعة مهمة لا غنى عنها ولا يدعو عاقل إلى أن يتوقف استيرادُها حتى نُتقن صُنعها، وحتى إذا تجرَّأ، أو تهوَّر، عاقل، ودعا إلى ذلك، فإن أنماط الاستهلاك الإنساني، وزخمه وديناميكيته، قوية وجارفة، ولا تسمح بالتأنّي، والتَّأمُّل. * وإذا كُنَّا، غير قادرين على التحكُّم في انتقال البضائع، فلا عذر لنا، إذا لم نهيئ المواقع والثقافة، والسلوك ونحسب حساباتنا جيداً، لكي نعبر هذه الفجوة الفاضحة بين ثقافة التصنيع وثقافة الاستهلاك. * انضباط، خط التجميع، وثقافته، والمؤسسات المدنية والإطارات القانونية، التي تقف وراءه، غائبة عن خطوط السير التي تعود عليها (سيَّاراتنا). * نحن لا نربط الأحزمة، ولا نحترم حدود السرعة ولا نقف عند خطوط التقاطع، ولا نلقي بالاً للإشارات الحمراء أمامنا، ولا نراعي الإشارات الخضراء، لدى الآخرين ولا نفسح الطريق لأصحابه، ولا نتحاور مع جيراننا الآخرين الذين يتقاسمون، الشوارع معنا ولا نعطيهم حقَّهم في المرور، أو نتفاوض معهم عليه. * نتمسك بثقافة، الاقتحام، والقسْر، والقفز على الأرصفة والحواجز، ونحصل مقابل ذلك على شوارع مضطربة، متوحشة، دامية، تتكسَّر فيها العظام، وتتحطم الضّلوع، وترتطم الرؤوس وتفقد الحياة، وتُدمَّر الممتلكات. * تحت، قِباب (البرلمان) المهيبة وعلى مقاعده الأنيقة، يدور حوار حاد، وتثور مهاترات صاخبة، وتطير كراسي، وربما، أحذية. * نقلت النُّخب السياسية، والاجتماعية، والمصلحية أدبياتها وسلوكياتها، من المقاهي والديوانيات والمنصَّات الثقافية ولقاءات الاتجاه المعاكس إلى مقاعد البرلمان وانشغلت بإحراز النقاط، وكَسْب الحوْلات، وشغلت أنفسها، والناس بالقضايا الجانبية، والمناظرات الأيديولوجية، التي تهم النخب المرفهة، أو المتمكنة، اجتماعياً واقتصادياً، وأعْطت أعظم اهتمامها للضجيج والسيرك الإعلامي. * تجاوزت التكتلات النيابية، الخطوط الحمراء، وقطعت الإشارات، وحولت الشارع السياسي إلى حَلَبة مصارعة ثيران. * ولأنَّ الديموقراطية غائبة في (الطابق) السفلي، فلا يمكن مساءَلة الطوابق العليا في النظام الذي يدعي الديموقراطية ويتغنى بها، ويتزين ب(مكياجها)، وإذا أمِن النُّواب، مساءلة الناخب المستيقظ ومحاسبته أساؤوا الأدب، وانحرفوا عن الطريق. * لا يهتم الكادحون في القرى الحالمة والحواري الضيقة وفي متاجر الجزارين والفكهانية كثيراً بنوابِّهم الذين فشلوا في تمثيلهم، ونجحوا في التمثيل عليهم. * والكل عند المتخلفين (أتوموبيل).
|