Tuesday 7th June,200511940العددالثلاثاء 30 ,ربيع الثاني 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "مقـالات"

المسند من خلال إسهاماته الأدبيةالمسند من خلال إسهاماته الأدبية
د. حسن بن فهد الهويمل

الحديث عن شخصية موزعة الاهتمامات، وعبر زمن طويل، ولاسيما إذا كان المتحدث يعيش معها الخلطة، ويشاطرها المسؤولية حديث لا يمكن أن يكون بريئاً. إذ للعواطف سلطانها وحقها المشروع، متى أمكن ترويض جماحها. ولقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليها وسلم مع زوج ابنته من أسرى بدر، ولكنه لم يستبد، بل استشار الصحابة، فكان أن أطلقه ورد قلادتها التي ورثتها من أمها (خديجة)، فعل ذلك، وهو يعلم أن الأسير سيقضي ما التزم به لقريش، ثم يعود مسلماً. والحديث عن عالم وأديب وتربوي وإعلامي، لم تشغله عوارض المرض ولا تعدد المسؤوليات عن أن تكون له يد مع العلماء والأدباء والإعلاميين عبر التأليف والصحافة والإذاعة والتلفاز، إضافة إلى عمله في قطاعات خيرية وإعلامية متعددة حديث متشعب، وهذه الإسهامات المتنوعة، يتعذر تناولها في حديث مقتضب، ومن ثم لابد من التقاط زاوية من نشاطاته، ومحاولة تغطيتها وفق المتاح. ولأن التنازع بين المهمة والوقت يحسم دائماً لصالح الوقت دون النظر إلى المهمة فإن ذلك مؤذن بالتخلي عن جوانب مهمة في حياة المدروس، وتناول جهود الشيخ (عبدالعزيز المسند 1353هـ - ...) العلمية والعملية يستدعي تصور الحواضن المعرفية التي أسهمت في تشكل الذهنية والمعرفية، فما من مترجم أو مؤرخ لعالم إلا ويلم بشيوخ المدروس ومقروئه، ذلك أن مفاتيح الأديب ما يقرؤه.
و(المسند) يتوفر على إمكانيات أدبية تضارعها إمكانيات أخرى، ليست بأقل أهمية منها، وإمكانياته الأدبية، لم تبرح أرض المحافظة، والفرق بين المحافظة والتجديد كالفرق بين المحافظة والتقليد. وكل منشأ في التراث تشده أمراسها إلى شوامخ القيّم الفنية والدلالية، بكل ماهي عليه من جمال وجلال، وكثير من جيل التأسيس المعرفي يصعب عليهم التخلي عن انتمائهم ومكتسبهم. والراصدون للحياة الأدبية في المملكة يوزعونها بين أجيال ثلاثة.
- جيل الرواد.
- وجيل التأسيس.
- وجيل الانطلاق.
ولما كانت المملكة مجموعة مناطق متفاوتة، فقد تم توحيدها إقليمياً بعد معركة التكوين التي خاضها الملك عبدالعزيز رحمه الله وجاءت معركة البناء لتوحيد البلاد علمياً وأدبياً، وكل متحدث عن مرحلة ما بعد التكوين يجعل منطلقه أدباء الحجاز. وقد تكون هناك إيماءات إلى ماطق أخرى.. وجيل الرواد تتنازعهم سمتا: التقليد والمحافظة، مثلما تتنازعهم أنواع الإبداع. أما جيل المؤسسين فهم الذين تواصلوا مع أدباء مصر والشام ممن واكبوا النهضة التعليمية في الحجاز، وإذ كان (المسند) حاضر التواصل مع أدباء مصر والشام، لانتقاله بالقوة من نجد إلى الحجاز، حين عزم الملك عبدالعزيز على النابغين من أبناء نجد باستكمال دراستهم، وبهذا اللحاق المبكر تشكلت مشاربه من ينابيع التراث الإسلامي، ومما جد في الساحة الأدبية والتعليمية والإعلامية، ومن هذا الجيل ومعه تشكلت شخصية (المسند) العلمية والأدبية، وهو قد أدرك نهايات جيل الرواد وبدايات جيل التأسيس، ولما لم يكن جيل التأسيس على وتيرة واحدة، فقد تنازعتهم تيارات أدبية وثقافية. فطائفة منهم سارت باتجاه الانطلاق والتفاعل الواعي مع المستجد الأدبي والاجتماعي، فيما سار آخرون باتجاه الرواد، متمترسين وراء كتب التراث وأنماط الحياة السائدة، وبقيت طائفة أخرى في موقعها محققة ذاتها الواقعية. ولأن (المسند) ممن لم يضعوا كل بيضهم في المشهد الأدبي، فإنه مقل لا يقدر أحد على تصنيفه. لقد اشتغل في مواقع كثيرة، وكان عملياً أكثر منه تنظيرياً أو كتابياً، والمتحدث عن جوانبه العملية سيجد الشيء الكثير، ولاسيما في قطاع الجمعيات الخيرية والمجال التعليمي. وفوق تأثير المهمات العلمية والتعليمية، امتدت إليه الوسائل الإعلامية، فاستجاب لها. والعمل الإعلامي وإن كان يستمد نجاحاته من الخلفيات الأدبية والثقافية فإنه يبتعد بها عن الصياغة الأدبية والتأنق الأسلوبي، ليقربها إلى العامة أكثر من زلفى.
وإذ يكون العملُ الخيريُ والتوعيةُ الإعلاميةُ والعملُ الإداريُ ممارساتٍ عمليةً مهمةً، إلا أنها تأتي على حساب الأداء الأدبي إنشاءً ودراسة. ولقد قلت ذات مرة عن شاعر لم يأبه بالموهبة، ولم ينقطع للإبداع إنه (شاعر مع وقف التنفيذ)، فإنني أقول عن المسند: (إنه أديب مع وقف التنفيذ)، بمعنى أنه يملك الاستعداد، ويتوفر على الثقافة والإطلاع، ولكنه لم يشأ استغلال هذه الإمكانيات وحصرها في حقل معرفي واحد، بحيث يُعرف في الأوساط الأدبية كما عُرف غيره من نقاد: منظرين أو مطبقين، ومن شعراء أخرجوا للناس أعمالهم الشعرية، أو سرديين أخرجوا للناس أعمالهم السردية. لقد جعل الإمكانيات الأدبية مساندة للعمل الإعلامي والتأليف الاختياري، والمقالة الصحفية.
وحين نقول بأن ممارسة (المسند) للكتابة بشقيها التأليفي والمقالي تأتي حسب الفراغ والرغبة، نقول بأنها مرتبطة بلغة تراثية علمية، لا يشوبها لحن ولا عامية ولا عجمة. بل أكاد أجزم بأن تأسيسه وتأصيله لآليات اللغة العربية لم يكن عبر الدرس الأكاديمي المتخفف، وإنما كان تأصيلاً عبر حلقات الدرس التقليدي.
وهو تأصيل يعتمد على الاستظهار والتطبيق. وتراثية (المسند) تمس المكتسب وطرائق الأداء ومجالات التناول، وتلك الصفات الثلاث حين يقع الأديب تحت طائلتها، يكون ذا سمة محافظة وليست مقلدة.
والأدباء المؤسسون الذين بدأ معهم (المسند)، ثم فارقهم، يتنازعهم العمل التأليفي وممارسة التعليم والتعلم، إذ لم تكن عندهم مراحل فاصلة، فهم طلبة وطلاب في آن، على حد: (رهبان في الليل فرسان في النهار)، وقد لا يواكب ذلك تحول سريع، فالمؤسسون والرواد من أكثر الأدباء أناة، فمشيهم لا ريث ولا عجل، ووعي الآخر بهم وعنهم يتشكل على ضوء اهتمامهم، إذ هناك علماء برزوا من خلال مؤلفاتهم، وآخرون برزوا من خلال إسهاماتهم العلمية أو العملية. و(المسند) وإن أسهم في التأليف، إلا أنه لم يشأ أن يكون مرتهناً لهذا الجانب، ومن ثم تعددت حقول اهتماماته، وتعذر حصره في مجال من المجالات. وباستعراض إسهاماته التأليفية والمقالية والبرامجية الإعلامية، بوصفها وثائق إثبات لأدبية النص عنده، وبخاصة برنامجه التفسيري الممتد لعشرات السنين، نجد أنه يمتلك لغة توصيلية، تأخذ حظها من الأدبية، غير أن التأنق الجمالي والانزياح المغرق لا يشكل أولوية عنده، فيما تقوم سلامة اللغة ووضوحها وأدبيتها. والمتابع لمقالاته وكتبه لا يجد اختلافاً بيناً بينها، إنه يكتب كما يتحدث، ويتحدث كما يكتب. وهذا باستثناء برنامجه (منكم وإليكم) الذي يتخذ طابع المشورة والنصيحة لشريحة من المجتمع، مما يتطلب تفصيح العامي وتعميم الفصيح. والفرق بين الكتابة والشفاهية واضح، وكل كاتب للمقالة لا يرى نفسه محترفاً، لا يخضع للأسلوب الصحفي، ولا يجد حرجاً من توحيد كتابته التأليفية والصحفية.
وعنصر التنافس حين لا يشكل عاملاً رئيساً يظل الكاتب مشغولاً بتوصيل الرسالة وسلامة الوسيلة. وأياً ما كان الأمر فإن (المسند) بوصفه موضوعاً يتنازعُه العلماء والأدباء، فهو على شاكلة (الطنطاوي) الذي آلمه نفي الفقهاء والأدباء له معاً، فإذا خاض معترك الفقهاء قيل له: ليس هذا العش عشك فأدرج، وإذا خاض معترك الأدب شاح الأدباء بوجوههم عنه، وهو الأديب المتمكن والفقيه المتبحر. وتلك إشكالية المثقف، فهو يأخذ من كل شيء بطرف، وقد يعرف كل شيء عن شيء، ويعرف شيئاً عن كل شيء، ولكنه مع تعدد اهتماماته، وتنوع مجالاته، لا يقيد هواه في الحقول التي يلم بها، إذ لا يتلبث فيها إلا قليلاً.
واستعراض عموده الأسبوعي في جريدة (القصيم) سابقاً، وفي جريدة (الجزيرة) لاحقاً (ما قل ودل) يكشف عن كاتب يتوفر على لغة أدبية مشوبة بالعلمية، وعلى خلفية ثقافية ذات مصدرين قويين: الفقه والثقافة، والمصدر الثقافي يستمد لحمته وسداه من كتب التراث الأدبي والتاريخي. ولهذا يوصف مقاله بالنص الثقافي، وليس بالنص الإنشائي، والكتبة المحترفون تغلب عليهم الإنشائية، ومن ثم لا يصنعون ثقافة، ولقد عُرفت شخصيات كثيرة، تهتم بثقافة النص، نجد ذلك عند معالي الدكتور الخويطر، وعند الأستاذ أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، وعند الشيخ عبدالله بن خميس، وعند آخرين من شرق البلاد وغربها. لقد سبق لداته من نجد حين تشكل وعْيُه الصحفي من خلال صحافة الحجاز، يوم أن كان يدرس هناك، كما أتيح له العمل فيها مصححاً ومراجعاً، وهي بحق صحافة الأدب الحي، إذا لا يلي أمرها إلا الأدباء المؤصلون لمعارفهم، وصحافة الأمس بهذه الكوكبة أصبحت ذات صلة بالعلم والأدب، فيما جاءت صحافة اليوم ذات صلة بالفن الصحفي والخبر التسجيلي والتحليلي، حتى كادت تنفصل عن أدبية النص، ولم يعد النص الأدبي مطلب القارئ الذي يريد من الجريدة أن تكون إخبارية تتابع الحدث ساعة بساعة، ومادة النخبة ليست القضية الرئيسة في صحافة اليوم. وهي وإن توفرت فإنما هي لشريحة محدودة، ولسنا بصدد الموازنة بين صحافة الأمس واليوم، إذ البون شاسع، وعالم اليوم يكاد يختلف كلية عن عالم الأمس، وصحافة اليوم تشكل (إمبراطورية) متعددة الإمكانيات، فهي بما هي عليه من قدرات متنوعة تلاحق المتغيرات، وتستخدم أحدث الوسائل وأكثر الإمكانيات. وما نود الإشارة إليه التأكيد بأن صحافة الأمس تهتم بالمادة واللغة ودسامة الموضوعات ومحدوديتها، ومن فتحوا عيونهم عليها طبعتهم بطابعها الموضوعي الصرف، البعيد عن فنيات الصحافة من حيث الإثارة والاستمالة والإمتاع، إنها صحافة الفائدة وحسب، والشيخ (المسند) في مطلع شبابه عاش تلك العوالم، فكان الكاتب الموضوعي البعيد عن الإثارة.
وهو إذا كتب المقالة الأدبية والاجتماعية فقد كتب الشعر، وكم قلت بأن الشعر ملكةٌ واقتدار، فأصحاب الملكة شعراء يحتاجون إلى ثقافة وموفق، أما المقتدرون فهم أولئك الذين خالطوا الشعر وحفظوا الشعر ودرسوه وألفوه وألفوا عنه، ثم قالوه في أضيق نطاق، وما أفرج عنه من مقطوعات ظفرت بها ابنته (الدكتورة غادة)، تشي بأنه ناظم مقتدر، وليس بشاعر، وهو قد أراح الدارسين والنقاد فقال بالنص (أنا لست شاعراً بالملكة ولا أقرض الشعر وإن طلبته قلته)، وما أكثر الذين قالوه اقتداراً، ثم انصرفوا عنه، لإيمانهم بأنه ملكة قبل كل شيء، من أمثال (طه حسين) و(حمد الجاسر) و(المنفلوطي) وعشرات آخرين، لقد توقف عدد من الأدباء عن نظم الشعر، نجد ذلك عند (أحمد محمد جمال) و(أحمد عبدالغفور عطار) و(راشد بن خنين) وهؤلاء متفاوتون في الإمكانيات، وقد يكون لسان حالهم أن جيده لا يقدرون عليه ورديئه لا يقبلونه لأنفسهم، أو أنهم كما الشافعي الذي قال:


(ولولا الشعر بالعلماء يزري
لكنت اليوم أشعر من لبيد).

وفي مجال التأليف فإن له أكثر من عشرة كتب، تمثل التنوع الثقافي، وهي بالجانب الشرعي ألصق، وقد يكون الدافع إلى تأليفها الشعور بأهمية القضية، ويهمنا منها ماله مساس بالثقافة والأدب، ومن بينها (الأندلس تاريخ وعبرة) و(الصين ويأجوج ومأجوج) و(سفينة الصحراء)، وقد تحسب هذه المؤلفات الثلاثة على (أدب الرحلة) وإن كان المنهجُ وأسلوبُ العرض يختلفان شيئاً قليلاً عن ذلك. ففي الأول يعتمد على التاريخ الأندلسي، ويحاول إثارة المشاعر والبكاء على الأطلال، فالأندلس هو الفردوس المفقود. وفي الثاني يسجل مشاهداته فيما سماه العالم المجهول، ويميل مع من يرون أن يأجوج ومأجوج عالم إنساني حي. فيما يحكي الثالث رحلة العقيلات على ظهور الجمال، ولقد طبقها مع لداته من هواة الرحلة كما لو كانوا من العقيلات وسلكوا طريق العقيلات المتجه نحو الشمال، وقد دوَّن مراحلها، وجسد ما كان يفعله المسافرون على الإبل، ووثق كل ذلك بالوصف والصور، ويعد كتابه هذا من أدب الرحلة التسجيلي.
ولأنه يحمل هم استحضار القدوة الصالحة، فقد قدم الشخصيات الإسلامية والأحداث التاريخية، جاء ذلك في كتب ثلاثة: (المنهج المحمدي) و(إمام الصابرين) و(متى ينتصر المسلمون) والواقع المعاش بأمس الحاجة إلى قراءة الأحداث التاريخية وسير أعلام النبلاء للاقتداء ومعرفة رجالات الفكر والعلم، وفي نهاية المطاف: من يكون عبدالعزيز المسند العالم والأديب والكاتب والإعلامي والإداري والتربوي؟ إنه خليط من هذا وذاك وسيظل مادة حديث لكل من راقته الشخصيات المتعددة المواهب والاهتمامات نحسبه كذلك، ولا نزكي على الله أحداً.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved