لقد تعرض المجتمع السعودي لبعض الأحداث المؤلمة من جراء ما فعلته بعض الفئات الضالة من الشباب المنحرف عقيدة ومسلكاً بما فعلوه من التكفير والتفجير الذي لا يمت للدين الصحيح بصلة، بل يناقضه كل المناقضة، بل يعتبر شذوذاً عن عموم هذا الشعب المسلم الذي عرف بالتدين الفطري والولاء والطاعة لحكامه وولاة أمره، وهذا الأمر يدعونا جميعاً للوقوف لمواجهته لحمله أفكاراً وافدة وغريبة عليه، ولقد كانت ردة فعل المجتمع بكل فئاته قوية ضد هذه الأفكار المنحرفة وقاومتها، وهذا غير مستغرب على مجتمع عاش واستمر في العيش على الألفة بين أهله والتمسك بحبل الله المتين، لم لا وهذا ما يؤكده قادة هذه البلاد؟ فقد قال المؤسس الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه: (إن فخرنا وعزنا بالإسلام)، وقد أكد هذه الخصوصية أبناؤه من بعده أيضاً، فقد اتبع خادم الحرمين الشريفين نهج أسلافه في اتخاذ الدين الإسلامي دستور الحياة ومنهج حكم، واعتبر الدين الإسلامي أساس نظام الحكم لهذه البلاد. ومن هذه المنطلقات فقد خصصت وزارة التربية والتعليم من ضمن خططها وبرامجها لمواجهة هذه الأحداث اللقاء الثالث عشر لقادة العمل التربوي الذي عقد بالباحة في الفترة من 26-29 محرم 1426هـ والذي اشتمل على عدة محاور كان المحور الأول: المواطنة حقوق وواجبات، والمحور الثاني: دور المؤسسات التعليمية في تعزيز المواطنة، والمحور الثالث: تربية المواطنة مسؤولية مشتركة. ورغم أن هذا اللقاء التربوي قد أثار الكثير من القضايا وطرح العديد من الأفكار الجادة، وفي الوقت نفسه، فإن تعزيز المواطنة أمر قائم وواجب والجهود مستمرة، والعمل المطلوب شاق وطويل، سيما ونحن نتعامل مع الإنسان، ولقد شدني كثرة الخلط والتداخل في تناول العديد من المفاهيم المرتبطة بالظروف والأحداث التي يعيشها مجتمعنا، فمن المعروف أنه مع اللحظات الحرجة والعصيبة في حياة الأمم تبقى للكلمة الصادقة دلالتها وأهميتها، ويبقى لتحديد المعاني متطلباتها وحجيتها بحيث لا تختلط الأمور مع بعضها، مما يتيح الفرصة لمن يتربص بمقدرات أمتنا في أن ينال منها ما يبغي، وإن كان هذا أمراً مستحيلاً - بإذن الله- طالما استمر الوعي المجتمعي الحادث الآن في مواجهة هذه الفئة الضالة لانحرافها عن طبيعة المجتمع السعودي الذي دستوره القرآن الكريم وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. ولذلك سأركز في هذه المقالة على المفاهيم التي تناولها لقاء قادة العمل التربوي وبصفة خاصة المفاهيم المرتبطة بالظروف الآنية التي يعيشها مجتمعنا، وأعني بها تحديداً (الوطن - المواطنة- الوطنية- المواطن) وهي مفاهيم تشكل ما يمكن أن نسميه العائلة المفاهيمية المرتبطة بالوطن، حيث تتقارب فيما بينها على الأقل ظاهرياً وفي الجذر اللغوي رغم الاختلاف في المعنى، ولعل ما دعاني إلى الاهتمام بتحديد المقصود بتلك المفاهيم يرجع للأسباب التالية: 1 - إن المفاهيم ليست مجرد كلمات تنطق تتناولها الألسنة، بل تحمل مضامين تؤثر بصورة أو بأخرى على سلوك البشر. 2 - تميز لنا المفاهيم بين الأشياء وبعضها البعض، بصورة أكثر تحديداً، فإذا تداخلت المفاهيم مع بعضها فسينعكس ذلك على تعامل من يتناول هذه المفاهيم وتلك آفة يجب أن ننأى بأنفسنا عنها. 3 - لا بد أن نقتنع أن الأمر لا يخلو أحياناً من سوء النية في تحديد بعض المفاهيم، فنحن مجتمع لنا رسالتنا الدينية المعروفة، ومعلوم أن الأفكار والقيم تؤثر بصورة أو بأخرى في السلوك وكل ذلك يرتبط بمفاهيم معينة. ولذلك في إطار التدفق المعلوماتي ومحاولة البعض الهيمنة على الآخر، فلا بد أن يكون لنا موقف محدد من كل ما يرد إلينا من مفاهيم. 4 - لوحظ في الفترة الأخيرة خلط وتداخل في تناول هذه المفاهيم، ونؤكد هنا ونقدر حسن النية الناتجة عن اندفاع البعض للذود عن الوطن، ولكن يجب أن يكون ذلك في اتساق وتناغم مع ثوابت مجتمعنا المعروفة. وعلى هذا ينبغي أن نراجع مفاهيمنا ونعمل على تحديدها بدقة، وأن نلتزم بهذا التحديد الذي يجب أن يتسم بالأصالة، أي أن يكون نابعاً من جذور المجتمع ومن منطلقاته وأهدافه وثقافته في إطار من العلمية والاستفادة من تجارب الآخرين دون إفراط أو تفريط، وكل ذلك يتطلب مرونة في الفكر وسعة في الأفق حتى نستطيع تحقيق الأهداف المأمولة لمجتمعنا وبما يخدم الصالح العام. وعن تلك المفاهيم ومن آراء العلماء والمتخصصين: مفهوم الوطن في اللغة: ورد في لسان العرب أن مفهوم الوطن لغة يشير إلى المنزل الذي يقيم فيه الإنسان، فهو وطنه ومحله (ابن منظور،2000م، ص 239). وبصفة عامة فاستخدام كلمة وطن في اللغة العربية تعبر وتنم عن الأرض التي ولد فيها الشخص أو اختار أن يعيش فيها، وتعبر من ثم عن نوع من الهوية الأولية. وارتباط الإنسان بوطنه وبلده مسألة مستقرة في النفوس، فالوطن مسقط الرأس عادة ومحل التربية، على أرضه يحيا الفرد ويعبد ربه ومن خيراته يعيش، والوطن نعمة من الله على الفرد والمجتمع، ومحبته والولاء له دائرة أوسع من دائرة محبة الأسرة، وهو في الوقت ذاته أقل من دائرة الانتماء المحبة والولاء للإسلام. وعليه فالانتماء للوطن إنما هو معزز للانتماء الإسلامي الذي هو الدائرة الكبرى كوطن أكبر للمسلمين. ومن إحسان الانتماء للوطن تنشئة الأفراد على المحبة والألفة والتماسك بينهم ويمكن أن يتم هذا في إطار الخلية الأولى للمجتمع وهي الأسرة التي اهتم بها الدين الإسلامي وأوضح أنه من لا خير فيه لأهله فلا خير فيه لوطنه وأن من لم يتعود القيام بواجب الانتماء - بعد الإسلام- لأبيه وأمه، فلن يرجى منه القيام به تجاه وطنه (الزيد، 1417هـ). وبذلك فالانتماء للوطن لا يتعارض بأي حال من الأحوال مع الانتماء للإسلام بل هو حلقة ودرجة تساعد عليه؛ أي على الانتماء للإسلام. أما مفهوم المواطنة ففي اللغة هي مأخوذة من الوطن - السابق بيانه - وهو محل الإقامة والحماية، وورد في الموسوعة السياسية: أن المواطنة هي (صفة المواطن الذي يتمتع بالحقوق ويلتزم بالواجبات التي يفرضها عليه انتماؤه إلى الوطن)، وفي قاموس علم الاجتماع تم تعريف المواطنة: بأنها مكانة أو علاقة اجتماعية تقوم بين فرد طبيعي ومجتمع سياسي (دولة) ومن خلال هذه العلاقة يقدم الطرف الأول (المواطن) الولاء، ويتولى الطرف الثاني الحماية، وتتحدد هذه العلاقة بين الفرد والدولة عن طريق أنظمة الحكم القائمة (غيث، 1995م، ص 56). ومن منظور نفسي: فالمواطنة هي الشعور بالانتماء والولاء للوطن وللقيادة السياسية التي هي مصدر الإشباع للحاجات الأساسية وحماية الذات من الأخطار المصيرية (هلال، 2000م، ص25)، وبذلك فالمواطنة تشير إلى العلاقة مع الأرض والبلد. والمواطنة بصفتها مصطلحاً معاصراً تعريب للفظة (Citizenship) التي تعني كما تقول دائرة المعارف البريطانية: (علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق - متبادلة - في تلك الدولة، متضمنة هذه المواطنة مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها من مسؤوليات). ولعل ما يثير القلق في مفهوم المواطنة أنه نبت غربي ارتبط بظروف يجب الوقوف أمامها، فالمواطنة ترتبط وتتمثل في علاقة الحاكم (الملك) بالسكان من حيث تبادل الحقوق والواجبات بناء على الرابطة الوطنية بعيداً عن الدين، وهذه النقطة تحديداً تثير المخاوف بصورة كبيرة، إلا أني ألمح اقترابها (الحقوق والواجبات) من مفاهيمنا الإسلامية، ويوضح ذلك من خلال رسالة القائد المسلم خالد بن الوليد في فتح بلاد الفرس حيث قال: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلكم المسلم له ما لنا وعليه ما علينا)، ونتيجة لذلك فقد رأى البعض في مفهوم الوطنية ما يدعو للاطمئنان، هذا ما أراه حسبما اتضح لي. مفهوم الوطنية تعرف الموسوعة العربية العالمية الوطنية بأنها (تعبير قويم يعني حب الفرد وإخلاصه لوطنه الذي يشمل الانتماء إلى الأرض والناس والعادات والتقاليد والفخر بالتاريخ والتفاني في خدمة الوطن). ويوحي هذا المصطلح بالتوحد مع الأمة، وفي اللغة الإنجليزية فقد جاء في قاموس أكسفورد تعريف الوطني (Patriot) وهو الشخص الذي يحب بلده وعلى استعداد أن يدافع عنها، ولذلك فالوطنية (Patriotism) تعني الإحساس بالوطن وامتلاك الصفات الوطنية من حب ورغبة في الذود عنه (Oxford dictionary,1978,p:467). وعلى المستوى العربي فالوطنية كما يؤكد (د. عبد الرحمن الزنيدي) تعني بحسب لفظها نزوعاً انتسابياً إلى المكان الذي يستوطنه الإنسان مثلما هو جارٍ بالنسبة للأديان الأخرى أو للجماعة البشرية، وكان هذا النزوع موجوداً لدى العرب منذ القدم وهو نزوع عاطفي برز في شعرهم تغنياً بالأوطان وحنيناً إليها عند التغرب عنها، والعرب ينتسبون إلى أوطانهم، فهذا نجدي وذاك حجاز وآخر تهامي، ثم أصبح بعد الإسلام العراقيون والمصريون.. إلخ. وعلى كل فإن الوطنية لها مبادئها العامة وآلياتها السلوكية التي يزرعها رواد هذه النزعة في نفوس الناس وينشئون عليها ناشئتهم، ويحاكمون إليها مواقف أتباعهم وينظرون إلى الآخرين من خلالها. وما سبق من آراء ورؤى يؤكد على الفارق الواضح بين الوطنية والمواطنة، وكما يؤكد (د. فهد الحبيب) أن صفة الوطنية أكثر عمقاً من صفة المواطنة أو أنها أعلى درجات المواطنة، فالفرد يكتسب صفة المواطنة بمجرد انتسابه إلى جماعة أو لدولة معينة، ولكنه لا يكتسب صفة الوطنية إلا بالعمل والفعل لصالح هذه الجماعة أو الدولة وتصبح المصلحة العامة لديه أهم من مصلحته الخاصة. وفي هذا السياق فثمة نقطة جديرة بالاهتمام والتوقف أمامها، هذه النقطة تتمثل في جدوى تناول الوطنية والاعتزاز بالهوية الحضارية والخصوصية الثقافية في عصر العولمة.. فهل يعد الحديث عن الوطنية في عصر العولمة عبثا؟ هل هي سباحة ضد التيار؟ هل تمثل المناداة بالوطنية دعوة إلى مقاومة ثورة علمية كاسحة بما تشكله من إمكانيات (تقنية) هائلة وإمكانيات اتصال فائقة؟ هل تمثل الدعوة إلى الوطنية وإعلاء شأنها دعوة إلى الانغلاق؟ هل هي دعوة إلى الانكباب على الذات والتقوقع داخل حدود لم يعد لها المدلول نفسه الذي كان سائداً في تاريخ سابق؟ هل هي رجعية في التفكير كما يروق للبعض أن يسميها؟ هل هي عدم واقعية في تقدير الأمور كما يحلو للبعض الآخر أن يصفها؟ إن الوطنية في غمرة كل هذه التساؤلات والتأويلات تشكل إطاراً للقيم الإنسانية ولا تشكل جداراً لسجن ولا حافة لخندق ولا حاجزاً لمنفى، إنما هي تشكل معبراً للالتقاء بالإنسانية كلها، إن الوطنية سياج للحماية.. حماية القيم الإنسانية والأخلاقية والتحصين ضد الضياع والتهميش واللامبالاة. الوطنية التزام والالتزام قيمة، والوطنية انتماء والانتماء مسؤولية، الوطنية اعتزاز والاعتزاز أصالة، الوطنية ارتباط بالجذور والارتباط ملاذ ومصير. وإذا نظرنا إلى العالم من حولنا نجد أن الوطنية تلعب دوراً رئيساً في الدول التي تقود العولمة وتروج لها وتستهين بالنزاعات القومية والحركات الوطنية، فالولايات المتحدة الأمريكية التي هي القطب الأكبر في عالمنا - اليوم - لا تتحرج أن يتكلم رؤساؤها عن المصالح الأمريكية العليا في كل مناسبة، ولا أن يصدر الكونجرس الأمريكي قانونا يبيح للقوات المسلحة أن تلاحق من يتعرضون للأمن القومي الأمريكي إلى داخل حدود الدول الأخرى، ولا تتحرج أمريكا أن تضع شروطاً لاستعمال بضاعتها وفرض منتجاتها من أجل نشر ثقافتها. وروسيا التي تعتبر القطب الثاني، التي تراجع دورها مع بداية التسعينيات من القرن الماضي، فإنها رغم اعتناقها الماركسية منهاج حياة اضطرت اضطراراً في أثناء مقاومتها للغزو النازي في الحرب العالمية الثانية إلى إثارة حافز الوطنية الروسية وإذكاء روح الوطنية والكرامة الروسية، وكانت الوطنية وحدها (وليست الماركسية) هي القوة التي أوقفت الزحف النازي، وهكذا فإن الدول الكبرى نفسها وهي تعتني بمزايا العولمة وتسعى حثيثاً لفرض قوانينها لا تتحرج في التمسك بإعلاء مصالحها الوطنية على أي اعتبار آخر. إن الوطنية حب وتعاطف وليست تطرفاً وكراهية.. حب للأرض والإنسان والعشيرة والقيم والخير الجمال. إن التحلل من الارتباط بالأرض أو الجذور هو بداية انفراط عقد الانتماء لسلسلة من الارتباطات بالمكان والزمان، وبالمبادئ والإنسان، بالتعاطف والتكافل، وهو طريق له بداية ولا تبدو له نهاية إلا الغربة والوحشة والإحساس بالضياع. ولعل ذلك هو ما نود التأكيد عليه، وفي هذا الإطار يصبح للوطنية معنى ويكون لها هدف، ونحن هنا لا نقلل من المواطنة بل نعتبرها جانباً من الوطنية أو أساساً لها، وكأن المواطنة هي نقطة انطلاق للوطنية وليست محطة وصول وعند ذلك سيكون الوطن هو المبتدى والمنتهى. نسأل المولى عز وجل أن يحمي وطننا من كيد الكائدين، ويعزنا بالإسلام ويعز ولاة أمرنا الذين جعلوا الإسلام منهج حياة ودستور وطن، ورفعوا علم وطننا متوجاً بكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله. ******* المراجع 1 - الموسوعة العربية العالمية: مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، الرياض، 1996م. 2 - زيد عبد الكريم الزيد: حب الوطن (منظور شرعي)، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، 1417هـ. 3 - عبد الرحمن بن زيد الزنيدي: مبدأ المواطنة في المجتمع السعودي، اللقاء الثالث عشر لقادة العمل التربوي، الباحة، محرم 1426هـ. 4 - فتحي هلال وآخرون: تنمية المواطنة لدى طلبة المرحلة الثانوية بدولة الكويت، الكويت، مركز البحوث التربوية والمناهج بوزارة التربية والتعليم، 2000م. 5 - فهد إبراهيم الحبيب، تربية المواطنة: الاتجاهات المعاصرة في تربية المواطنة، اللقاء الثالث عشر لقادة العمل التربوي، الباحة، محرم 1426هـ. 6 - محمد عاطف غيث: قاموس علم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1995م.
|