في شارع الثميري.. دفع الطفل صندوقه الرابض أمامه بغيظ فتناثرت العلب المرصوصة فوقه بنظام مغرٍ على رصيف الشارع.. وصرخ بقهر.. - ما في بيع!! ثم عاد يجمع علبه المنثورة.. ودموعه تكاد تطفر من عينيه.. وما أن أنهى عمله حتى وضع سجادته على كتفه فأزاحت طاقيته التي نسي أن يعدلها.. وضم إلى (كرشه) الصغير.. صندوقه.. ومضى.. كان المنظر عاديا.. وربما مألوفا.. لولا أن صديقي الذي كان يشاركني نفس (الموقع).. لحق الطفل.. وسأله: - وراه ما في بيع؟؟ وأجاب الطفل مغتاظا- كأنه يقول.. بدلا من أن تأسف على الغريق.. أنقذه.. - ما أدري؟! لم يكن الطفل الا بائع أشرطة مسجل عليها أحدث ما غنى محمد عبده وعبدالحليم حافظ ونجاة وعفاف راضي.. وحجاب العبدالله.. الى آخر القائمة.. مما هو معروف لدى الجميع. وما هو معروف لدى.. السواقين فقط.. وليس هذا الطفل الذي لم يتجاوز الحادية عشرة بعد الا واحد من عشرات يتمركزون في أهم شوارع الرياض.. واكثرها روادا.. ففي شارع الوزير.. وقريبا من بائعي سندويتشات الفلافل والشاورما.. يتجاورون مع بائعي الكتب وصانعي (نسخ) المفاتيح.. وبائعي (الشراريب) الذين يفترشون الارصفة.. حيث يبدأ عملهم.. بعد صلاة المغرب مباشرة.. ويستمر الى وقت متفاوت.. قد لا يتجاوز صلاة العشاء.. كما فعل صديقنا الطفل.. عندما لم يجد.. بائعاً واحداً.. يعوض عليه جلوسه الطويل. قد يكون هؤلاء مصدر سرور ومتعة.. لرواد الوزير والثميري وشارع الخزان الذي بدأ ينافس الوزير في الأهمية التجارية.. نظرا للمحلات التي افتتحت قريباً وللعمارات الضخمة التي بدأت تحل محل بيوت الطين التي بدأت تنحدر أمام غزارة أمطار شتاء الرياض أضف اليهم بائعي شارع البطحاء.. الذين يتميزون عن أخوانهم في الثميري.. والوزير والخزان.. بأن لديهم أقدم اسطوانات.. دخلت الرياض.. حتى قبل أن يعرف خلف العتيبي أصول الغناء. ولو كنت من هواة جمع الاسطوانات.. ولديك متحف لهذا الغرض.. لما ترددت في دفع أكثر من مائة ريال مرة واحدة وفي جولة واحدة. فاذا اجتمعت الجوقة.. وأراد كل واد أن يجرب مسجله.. أو (البيك أب) البكم الذين يملكه.. فان الشوارع المذكورة تبدأ في الغناء المتباين.. حسب قوة المسجل ونوعية بطاريته وحلاوة الاغنية التي يجرب بها مسجله.. ولكن المزعج حقا أن تبدأ هذه الاغاني كلها.. مرة واحدة وبأصوات حادة.. ومختلفة.. حتى بين الجار البائع وجاره الذي لا يبعد عنه سوى خطوات. ولذلك.. فانه أصبح من اللازم أن يحتفظ (المتسوق) بقطعة قطن في جيبه ليستعملها عند الحاجة القصوى.. ولن يذهب عناؤه في البحث عن القطنة المذكورة سدى.. فهو حتما سيحتاجها وخاصة اذا شعر بالمغص الجوعى.. فدنا من بائع الشاورما الذي يغري هو الآخر.. ليس بصوت الغناء والطرب ولكن.. بكأس من اللبن الحامض.. الممزوج بمسحوق (الثوم) المنعش.. أحد الجالسين.. كان يحك أنفه.. وهو يبحث عن الشريط المطلوب للزبون الذي يقف أمامه. وعلى فكرة.. فهذا الزبون مزيف.. كيف؟؟ صبركم بالله.. صاحب الاشرطة يرى أن البيع خفيف.. يتفق مع زميل له أن يمثل دور (الزبون) ليشعر الآخرين.. أن البضاعة رائجة.. ويكون في الحقيقة صيدا.. يقع فيه.. من (تنطلي) عليه الحيلة.. وهي حيلة مقتبسة من المتعاملين (باليا نصيب) في الخارج.. أبعدنا الله واياكم عنهم- وصلت إلى هنا بتلقائية غير مخططة.. ولكن الحاجة.. أم الاختراع بحق و(حقيق)!!! وكأنني.. (وقعت) جلست القرفصاء.. أمام البائع المنهمك في البحث.. الذي ما أن رآنى حتى ترك زبونه القديم.. وانتبه.. * أريد شريطا.. لشمس؟؟ - آه.. شمس.. عندي لها.. عدا على وسلم.. * بس أنا أبي.. (ما قلتلك أنا ياما) - والله ذي بيعت.. تدري أن (شمس) أغانيها تباع بسرعة؟؟ * اذاً ما هي عندك.. ما في داعي. - لا.. اذا تبغاها أنا أجيبها لك.. بس تعطيني ريال.. زايد. * هي كم ثمنها. - ستة- ريالات.. وريال.. سبعة. * أف رخيصة كثير.. طيب ليه في المحلات المزخرفة الشريط اللي مثل ذا.. يتراوح بين عشرين وخمسة وعشرين ريالا. يتنهد ويحدثني.. عن الاشرطة التي يشتري أبو ساعة منها بأربع ريالات ونصف.. وأبو ساعتين بستة ريالات وكيف أن هناك محلات خاصة لتسجيل مثل هذه الاشرطة لا تعتمد على (ستيريو) وغير ستيريو.. بل من الراديو مباشرة.. وهي لا تكلف شيئا غير جلوس أحد الزملاء أمام الراديو لمراقبة دقة التسجيل.. لقاء نسبة معينة من الربح.. وتتأكد أن كلامه صحيح.. عندما تسمع (الزحلقة) والتقطيع أحيانا في تلك الاشرطة.. وتتأكد أيضا أن في كلامه بعض المبالغة عن ربحه.. وثمن الأشرطة.. لكن من غير المشكوك فيه أن في كلامه نسبة كبيرة من الصحة. أحد المواطنين.. غاضب.. واجهته مصادفة يحمل آلة تسجيل.. ويتمتم بعبارات مختلطة.. غاضبة.. * ها خير؟؟ - وايش فيك أنت يا (ملقوف)؟! * ولا شيء.. بس شايفك حامل مسجل وخارج من محل بيع المسجلات.. غضبان.. وانا رجل أكتب عن هذا الموضوع. ويروق الرجل بعض الشيء.. ويحدثني عن شرائه لهذا المسجل ماركة (...) قبل أيام فقط.. وان (زر) التسجيل قد تعطل .. فعاد الى المكان الذي اشترى منه المسجل.. ولكنهم أخبروه أنهم فقط يبيعون ولا يصلحون الخلل.. ويصرخ الرجل غاضبا- ومعه حق. - هل من المعقول أن أدفع مائة وخمسين ريالا ثمن حديد أرميه في البيت.. يجب على الذين يبيعون المسجلات أن يجدوا طريقة لاصلاحها. * هدئ من روعك وسنجد مكانا نصلح فيه مسجلك سمعت انه في (الكويتية) شارع خاص.. بالغناء والتصليح.. هيا بنا.. - وأنت لماذا تتعب نفسك؟ * ألم أقل لك انني اكتب موضوعا عن هذا؟؟ في (الكويتية) سوق.. ولا كل الاسواق.. في أوله فقط بائع سرر وفي آخره منفذ على بائعي الفجل والبلح والبصل الاخضر.. والملوخية.. آخ. وبين البابين سمفونية.. عجز طيب الذكر بتهوفن وصنوه موزارت عن تقليدها.. يختلط فيها صوت حجاب بصوت محمد عبدالوهاب.. وصوت عتاب بصوت فيروز بصوت (ست الكل) على حد تعبير اخواننا المصريين. بائع الاحزمة الجلدية يتوسط السوق.. وبجانبه.. مصلح المسجلات وبائعها.. ومستمعها.. الذي يسمي نفسه أو يصدق الناس الذين أطلقوا عليه (مهندس) متناسيا أن هذا اللقب لا يحصل عليه الا صاحب معدل ارتفع فوق الثمانين بالمائة.. وبعد اربع سنوات جامعية يقضيها في النحت والتعرية.. اذا كان من أصحاب التوفيق فهو يقول لك اذا لم يناسبك ما عرضته عليه!. - دور (مهندس) غيري. والمهندس ال (غيره) لا يختلف عنه كثيرا.. فعندما قال له الرجل: * أريد ان اصلح (وصلة) الكهرباء. - عشرون ريالا؟؟ * انها لا تستحق حتى ريالين؟؟ - انك تنسى اننا سوف نلحمها؟؟ * أنا متأكد أنك لن تلحمها.. فهي شمعيه وعود كبريت ونار.. يسيل الشمع على الشمع وكفى الله المؤمنين.. - اذاً لماذا لم تعملها في البيت.. اذا كنت فصيحها هكذا؟؟ * لان المسجل يريد (فكا)... وأخاف انني اذا فعلت هذا.. أن اتلف بعض الاشياء الداخلية التي لا أقوى على اصلاحها.. ولا اعرف أين مواقعها. - اذاً ادفع المبلغ.. ثم لا تنس ايضا أن مفتاح التسجيل يلزمه اصلاح. * وتدخلت في الامر.. قال الرجل ادفع عشرة.. واصر (المهندس) على عشرين.. وقلت أنا خمسة عشر. وبعد الموافقة.. فك(المهندس) المسجل.. وقال إنه لا (ينفع).. وأشار على الرجل أن يبدله له (ببكم) جديد عنده.. ويهديه فوقها مجموعة من الاسطونات النادرة. ورفض الرجل طبعا.. رغم كل الاغراءات لانه يعرف أنه لم يمض على شرائه لمسجله بضعة أيام. في أحد أماكن بيع الاسطوانات.. أدخل.. واحد من عشرات الاماكن التي انتشرت في الرياض.. في كل شارع أنيق وعلى كل ناصية.. وحتى في (الحارات) الراقية.. وكأنها كلها.. مرسومة بقلم واحد.. وفي وقت واحد.. ومتفق على شكلها.. بل وحتى على أضوائها.. واسمائها الشاعرية.. القائلة.. واجهة المحل من الاجر الملون.. الاحمر والاسود غالباً.. وزجاج (الفاترينه) شفاف.. على أرضيتها - الفاترينة- بضع اسطوانات عربية وأجنبية.. ومعلق بها صورة كبيرة للرائع (توم جونز) واخوانه ليمتد (المحدودة).. يبتسم باغراء.. وتحد.. في الداخل ضوء أزرق- غالبا- خافت.. من وراء البائع ومن الجدران فيبعث.. ضوءاً أصفر ساطعا.. ذاب سطوعه بتلاقيه مع الازرق.. فكون عند التلافي لونا مبتكرا جديداً.. ديكوراً انيقاً جداً.. تحس فيه برائحة العطر.. رغم أنه بلا عطر.. البائع.. في كل محل.. صورة طبق الاصل.. ثوب جديد نظيف.. مكوي.. هفهاف.. خط الغترة (المرزام) على الجبين تماما.. خصلات من الشعر.. تتمرد على الغترة.. جو شاعري.. مغر تدفع فيه الخمسة والعشرين ريالا ثمن الاسطوانة التي عرضها عليك أخو (طفر) قبل لحظات بستة ريالات.. فلم ترض.. الرجل لا وقت عنده للمساومة.. السعر معروف والدين ممنوع والعتب مرفوع والرزق على الله.. ليست هذه حكاية الرياض مع الاسطوانات المهزومة أمام أشرطة التسجيل أو بصورة أدق.. حكاية الاسطوانات وأشرطة التسجيل مع الرياض ولكنها حكاية طويلة.. لها وجه آخر.. اسأل عنها المجرب ولا تسأل طبيب.. (ألف كاف).
|