Friday 3rd June,200511936العددالجمعة 26 ,ربيع الثاني 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "أفاق اسلامية"

وقفات على طريق تجديد الخطاب الدّعويوقفات على طريق تجديد الخطاب الدّعوي
د. سفران بن سفر المقاطي (*)

يتندَّر بعض إخواننا المصريين على تدنِّي مستوى الخطاب الدعوي بواقعةٍ طريفةٍ بطلها خطيب مسجد في إحدى قرى صعيد مصر؛ حينما دعا في نهاية إحدى خطب الجمعة بالنصر والتأييد للسلطان عبد الحميد وعساكره؛ فقد كان يُلقي خطبته من كتاب قديم للخطب!! وهي واقعةٌ - إن صحَّت - تعني أن هذا الرجل وأمثاله بعيدون تماماً عن معايشة الواقع، والانسجام مع روح العصر، وأنهم فقط مجرد مؤدين.. ولا معنى إذاً لمقولة: إن الرسالة التي تنطوي عليها الخطبة ينبغي أن تقع موقعاً مؤثراً في نفوس المتّلقين من خلال تفاعلها مع واقعهم الملموس ومشكلاتهم الحياتية.. فذلك ترفٌ لا ينبغي لمثلهم أن يشغلوا به أنفسهم.
وليس بعيداً عن هذا النموذج ما نرى عليه كثيراً من الدعاة اليوم: حين تتعرَّض لرسائلهم الدعوية تشعر - منذ الوهلة الأولى - أنهم في وادٍ والعالم كله في وادٍ آخر.. فبعضهم يصرف جهده في الحديث عن موضوعات ثانوية لا تستدعي الوقوف طويلاً أمامها؛ دون أن يُعيروا أدنى أهتمام للعديد من القضايا التي أفرزتها الحياة المعاصرة التي يتلهف الناس على معرفة التوجُّه الإسلامي بشأنها.. والبعض الآخر لا يزال متمسكاً بلغة خطابية تراثية تفوق بمراحل المستوى الفكري والثقافي للجمهور الذي يتوجَّه إليه برسائله.
يُضاف إلى ذلك التعصب المذهبي المقيت، الذي لا يزال بظلاله السوداء على مسيرة الحركة الإسلامية؛ مما يُعدُّ عائقاً كبيراً أمام جهود الدعوة الإسلامية، وهو ما يعني بالتالي ضياع جهود كبيرة في هذا المجال دون أن تحقق الأهداف المنشودة منها.
ولا تخلو الجهود الدعوية الموجهة إلى غير المسلمين من سلبيات كثيرة؛ أهمها: عدم مخاطبتهم باللغة التي يفهمونها، وعدم القدرة على عرض الإسلام في صورته المشرقة الرائعة؛ باعتباره ديناً ينظِّم حركة حياة الفرد كلها: في علاقته بربه - سبحانه - وفي تواصله مع ذاته، وفي علاقته مع الآخر أيّاً كان هذا الآخر: إنساناً أو حيواناً أو نباتاً أو جماداً.. إلخ.. في منظومة حضارية متكاملة لم تتوافر إلا لهذا الدين الخالد.
ومن ثم يُمكن أن نفسِّر في هذا الإطار تلك الدعوات المتكررة التي انطلقت مؤخراً مطالبةً بضرورة تجديد الخطاب الدعوي، بما يجعله مواكباً لروح العصر الذي نعيشه، وقادراً على مخاطبة كل الأطياف من المسلمين وغيرهم.
ولاشك أن هذه الدعوات لم تُولد من فراغ؛ وإنما فرضتها تلك الممارسات الخاطئة للخطاب الدعوي الموجَّه للمسلمين وغيرهم - على حدٍّ سواء - والتي تستدعي إعادة النظر في الخطاب الدّعوي، أو التجديد في مضامينه وآلياته ووسائله.
بدايةً نود التأكيد على أن التجديد سنَّة الحياة، والتغيير قانون الوجود والبديل للتجديد، هو الجمود الذي يعني توقف حركة الحياة؛ وهو أمر مستحيل. والإسلام - بوصفه دين الفطرة - يتمشى مع سنن الحياة، ولا يصادم الفطرة الإنسانية.. ومن أجل ذلك يشجِّع على التجديد المستمر لحركة الحياة والمجتمع من أجل الوصول إلى الأفضل؛ ومن ثمَّ كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التجديد صريحة وواضحة، حين قال فيما رواه أبو داوود من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها).
والتجديد المطلوب في عصرنا الحالي يعني: التسلُّح بكل أسلحة العصر، والفهم المستنير للمتغيّرات الجديدة؛ من أجل صياغة حياة المسلمين صياغة جديدة تُواكب هذه المتغيّرات من ناحية، وتحافظ على حيوية الإسلام من ناحية أخرى، وتشقُّ للمسلمين طريقاً للمشاركة في صنع التّقدم، وتوجيه أحداث التاريخ من ناحية ثالثة.. فلا يليق بالمسلمين أن يظلوا قابعين في مقاعد المتفرجين يرقبون في سلبية تامة ما يجري حولهم من أحداث في عالم اليوم، مرتضين لأنفسهم أن يظلوا مستهلكين لمنتجات العصر وأفكاره مع الحفاظ على الثوابت الشرعية والثقافية للأمة.
والشيء الذي ينبغي التأكيد عليه هنا هو: أن التجديد لا يعني بأية حالٍ من الأحوال المساس بثوابت العقيدة والعبادات، وما ورد في الكتاب والسنَّة، من أحكام قطعية؛ إنما يعني إعمال العقل والفكر في مشكلات الحياة المعاصرة في محاولة لاستشراف آفاق المستقبل وتحدياته وخياراته؛ ليظل الفكر الإسلامي في حالة استعداد دائم، وليكون له موقفه الواضح من مستجدات الواقع، ومن تحوُّلات، أو صدمات المستقبل.
إننا اليوم أحوج ما نكون إلى إعادة النظر في خطابنا الدّعوي؛ في ظل ما تواجهه أمتنا من تحديات كبيرة على جميع المستويات: السياسية، والاقتصادية والثقافية، والإعلامية، بل والعسكرية.. إذ لا بد أن يكون هذا الخطاب على مستوى تلك التحديات.. ينبغي له أن يعكس الدور الحضاري المنوط بهذه الأمة العظيمة؛ مِصداقاً لقول الحق - جلَّ وعلا -: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} (110)سورة آل عمران، و(الخيرية) هذه ليست خيرية جنس وعرق ولون؛ بل خيرية دور حضاري كبير تضطلع فيه الأمة بمهمة الدعوة إلى دين الله الحق على مرِّ العصور والأزمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وإذا كنا اليوم نعيش عصراً ساد فيه قانون غطرسة القوة، وطغى عليه منطق عبادة المادة وتأليه العلم والإهدار البشع لحقوق الأفراد والشعوب في تقرير مصائرها؛ فإن البشرية باتت في حاجة ماسَّة إلى من يردُّ عنها هذا الطوفان المدمِّر، ويحميها من ويلاته.. ولن يكون ذلك إلا برسالة الإسلام التي يتحتم علينا الآن أن نجتهد في وضع الآليات المناسبة لدعوتها؛ بما يكفل تقديم العطاء الحضاري لهذا الدين العظيم؛ من خلال مضمون راقٍ، ووسائل حديثة تنسجم مع الواقع الذي نعيشه.. إذ لا يستساغ على الإطلاق في عصر الأقمار الصناعية والسماوات المفتوحة، وانتشار القنوات الفضائية بكل ألوان الطيف، وتعاظم دور شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)؛ أن يظل الخطاب الدعوي متقوقعاً في قوالب روتينية جامدة لا تعبِّر إطلاقاً عن روح العصر: ما بين مضامين جافة انسلخت تماماً عن حياة الناس وواقعهم، ولغة تراثية لا يفهمها أغلب المتلقين، ووسائل تقليدية لا تكفل الانتشار المطلوب للدعوة إلى سبيل الله في هذا العصر.
ولأن الأمنيات لا تتحقق إلا بالجهود المخلصة والعمل الجاد الدؤوب؛ فإننا - من خلال هذه العجالة - نتوجَّه بدعوتنا إلى المنظمات والهيئات الإسلامية الكبرى في العالم كرابطة العالم الإسلامي، والأزهر الشريف، وغيرهما؛ بأن تضع قضية (إعادة النظر في الخطاب الدعوي) في بؤرة اهتمامها، وأن تتوحَّد جهودها في هذا المجال؛ سعياً نحو صياغة إستراتيجية واضحة تنطلق من أسس علمية قائمة على دراسة واعية لواقع الدعوة الإسلامية؛ تنطوي هذه الإستراتيجية على مجموعة من الخطط والبرامج المناسبة التي تكفل بعث الروح والحيوية في الخطاب الدعوي: من خلال تحديد الأولويات التي ينبغي أن يحتويها مضمون هذا الخطاب، وتبني اللغة المناسبة والوسائل العصرية لتقديمه.. فأين منا مشروعات كبيرة لم تتحقق على أرض الواقع كالقمر الصناعي الإسلامي المزعوم، أو لم تحقق الآمال المعقودة عليها كوكالة الأنباء الإسلامية محدودة الدور والفائدة غير أننا - إحقاقاً للحق - لا نستطيع أن نغفل بعض الجهود الفردية المباركة التي نجحت في تقديم نماذج رائعة للخطاب الدّعوي؛ ومن بينها - على سبيل المثال - قناة (اقرأ) الفضائية؛ بما تعرضه من برامج وفقرات متميزة حققت انتشاراً جماهيرياً كبيراً.
الخلاصة أن هذه الأمة لن تتحقق لها صفة (الخيرية) إلا بأن تكون أهلاً لإبلاغ رسالة الله - تعالى - إلى كل أصقاع الأرض.. ولن يتحقق ذلك إلا بخطاب دعوي راقٍ: واقعي في مضامينه.. سهلٍ في لغته.. عصري في آلياته ووسائله.

(*) رئيس قسم الإعلام بجامعة أم القرى

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved