* الجزيرة - خاص: أظهرت دراسة علمية عن تأثير خطبة الجمعة في المصلين بالمقارنة بالوسائل الإعلامية الأخرى أن خطبة الجمعة تعدُّ أقوى وسائل التأثير في المتلقين، وتغيير سلوكياتهم، وتوجيههم الوجهة المطلوبة، لعدة أسباب: أنها عبادة يتعبد بها المصلون، وأنها مباشرة من الخطيب للمتلقين، إضافة إلى التهيئة العامة للمصلين للاستماع لما يقوله الخطيب دون شيء آخر يشغلهم عن الخطبة. لذلك كرَّست وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد جهودها في تأهيل الأئمة والخطباء والدعاة، والارتقاء بخطب الجمعة، وتنظيم الدورات الشرعية والتأهيلية للخطباء، بهدف تفعيل دور المنابر في تصحيح المفاهيم، وتوعية الناس والارتقاء بالخطاب الدعوي. فالدُّعاة هم حملة أمانة الدعوة، ومنابر المساجد هي الأكثر تأثيراً وقوة في تعريف المصلين بالحق والبعد عن الباطل، ويوم الجمعة عيد للمسلمين ويوم مشهود وفيه ساعات إجابة. والسؤال: كيف يمكن تفعيل دور المنابر في التوعية والإرشاد والتوجيه؟ وما هو الواجب الملقى على الدعاة الذين يرتقون منابر الجمعة؟ وكيف نعيد إلىالمنبر دوره ومكانته في عصر الفضائيات؟ في هذا التحقيق نحاول الإجابة عن هذه الأسئلة: مكانة عظيمة في البداية طرحنا قضية عودة دور المسجد ليكون نبض الحياة، وأماكن لتجمع الناس والحصول على العلم الشرعي والرؤى الصحيحة في ظل (العولمة) و(الفضائيات) و(الإنترنت)، فكيف نعيد إلى المسجد دوره؟ يقول الدكتور عبد الله بن محمد الحميد عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد وإمام وخطيب جامع الملك فهد بأبها: المسجد في الإسلام له مكانة عظمى ومنزلة رفيعة مقدسة في نفس كل مسلم؛ إذ إنه بيت الله تعالى في الأرض، ومكان اجتماع الناس في كل يوم خمس مرات لأداء فرائض الصلاة المكتوبة، ففيه يجتمعون ويتعارفون ويتآلفون ويسلِّم بعضهم على بعض، تحفُّهم الملائكة، وتغشاهم الرحمة، ويذكرهم الله فيمن عنده في الملأ الأعلى. أما يوم الجمعة، فإنه يوم الاجتماع الأكبر من كل أسبوع لجموع المسلمين كباراً وصغاراً، حيث يستمعون إلى خطبة الجمعة من خطيب المسجد الذي يذكِّر نفسه وإياهم بالله سبحانه وتعالى، والحرص على طاعته وشكر نعمائه، والصبر على قضائه وقدره، ويحثهم على اتباع سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، ويوضِّح لهم أحكام الإسلام في العبادات والمعاملات، إلى غير ذلك من الموضوعات المهمة التي تتعلق بحياة المسلم في كل وقت وحين. وفي المسجد تُعقد الدروس العلمية والندوات والمحاضرات لصفوة العلماء وطلبة العلم الموثوقين الذين يتناولون في أحاديثهم موضوعات تتصل بتفسير كتاب الله تعالى وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم بالشرح والتحليل، أو يناقشون إحدى المشكلات الاجتماعية في السلوكيات أو الطبائع والعادات، ثم يعرضون طرائق العلاج الناجح المستمد من هدْي الكتاب والسُّنة. وفي المسجد تُفعَّل حلقات تحفيظ القرآن الكريم لتعليم الناشئة حفظ كتاب الله عز وجل، ومعرفة أحكام التلاوة مع التدبر والتطبيق منهجاً وسلوكاً، وصدق الله العظيم إذ يقول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ}. أمانة ورسالة ويقول الدكتور عبد الله بن علي بصفر الأمين العام للهيئة العالمية لتحفيظ القرآن الكريم وإمام وخطيب جامع الشعيبي بجدة: إن المساجد بيوت الله، فيها يُعبد وفيها يُذكر اسمه، وزوَّاره فيها عُمَّارها، وهي خير بقاع الأرض، ومنارات الهدى وأعلام الدين، فكما أنها مجالس للذكر، ومحراب للعبادة، فهي منارات لتعليم العلم ومعرفة قواعد الشرع، بل هي أولى المؤسسات التي انطلق منها شعاع الدعوة والعلم والمعرفة في الإسلام، وفي فضلها وعظم منزلتها وردت نصوص كثيرة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية تبين مكانة المساجد، فقد كان أول عمل قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة هو تأسيس مسجده بالمدينة صلى الله عليه وسلم. ومن هذه النصوص قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}، فالله سبحانه وتعالى - وهو مالك كل شيء - نسب المساجد إليه وشرفها وعظمها بإضافتها إليه، فليست هي لأحد سواه، كما أن العبادات التي كلف الله عباده إياها لا يجوز أن تُصرف إلى سواه، وقد مدح الله تعالى الذاكرين الله فيها ووعدهم بحسن جزائه، كما امتدح الذين يحرصون على عمرانها سواء عن طريق بنائها أو تنظيفها أو صيانتها أو التردد لعبادة الله فيها، قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}. وفي الأحاديث النبوية ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للمساجد أوتاداً؛ الملائكة جلساؤهم، إن غابوا يفتقدونهم، إن مرضوا عادوهم، إن كانوا في حاجة أعانوهم). ثم قال: (جليس المسجد على ثلاث خصال: أخ مستفاد، أو كلمة حكمة، أو رحمة منتظرة). فليس هناك من قول أفضل ولا أحسن من الدعوة إلى الله؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، وليس هناك أعظم من رجال يحملون الدعوة إلى الله ليبلغوها إلى الناس، وقد اختار الله محمداً صلى الله عليه وسلم لحمل أعظم دعوة وأنقى وأهدى وأجمع رسالة وأدوم تنزيل وأبقى شرعة، واختار أمته لتبليغ أقدس كتاب، وتوضيح أهدى سبيل، وتعليم أنبل غاية وأسمى هدف، وصدق الله: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. لهذا وجب على الأمة الإسلامية اليوم أن تسارع إلى حمل هذه الأمانة وتبليغ تلك الرسالة، وأن ترتفع إلى مستواها، وتعلو إلى أفقها. وقد قام المسجد بالتربية الإسلامية والدعوة في عهود الإسلام الأولى خير قيام؛ فقد كان منبر الرسول صلى الله عليه وسلم منارة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وشملت أحاديثه وخطبه الدعوة إلى الالتزام بتعاليم الإسلام، وكان يستقبل الوفود من غير المسلمين فيرون بأنفسهم ما عليه المسلمون، وهذا من أبلغ وسائل الدعوة (دعوة العمل والتطبيق). منابر الجمعة.. والدعوة أما عن منابر الجمعة ودورها في الدعوة إلى الله تعالى فيقول الدكتورعبد الله الحميد: إن الدور الذي تقوم به (المنابر) والمساجد دور كبير وخطير، وإذا لم تكن المساجد هي محاضن الدعوة إلى الله سبحانه ومنطلق التوجيهات الربانية فأين تكون؟! ولأجل ذلك فإنه ينبغي على الجهات الرسمية تفعيل دور المسجد لأداء رسالته بشكل أكبر وبجهد أوضح، وذلك عن طريق الخطباء والعلماء والدعاة إلى الله على بصيرة بالحكمة والموعظة الحسنة، وخصوصاً في هذا العصر المشحون بالفتن والشبهات والإغراءات التي تتنازع الشباب الذين هم ذخيرة الأمة وعدة مستقبلها، ولا شك أن تلك الشريحة مستهدفة من قِبل أعداء الإسلام لصرفها عن الاستقامة وإغراقها في الملهيات والمفسدات التي تتمثل في القنوات الفضائية ومواقع شبكة المعلومات. رسالة المسجد ودوره ويؤكد الدكتور عبد الله بصفر على كلام الدكتور الحميد فيقول: إن دور المسجد يُستمدُّ من أنه مكان عبادة، ولذلك له قدسيته ومكانته التي يجب على الجميع الحفاظ عليها؛ فالمسجد هو المكان الذي يُدعى فيه إلى الله. فيجب إنشاء المسجد ليكون المكان الذي يُدعى فيه إلى الله، وتُنفَّذ خلاله أوامره، ويكون محل العبادة والطاعة على كافة المستويات، ولقد علمنا أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان مقر حكومته، فمنه يرسل البعوث، وفيه يهيئ المجاهدين للغزو، ويقضي بين الناس فيما اختلفوا فيه من الحقوق، وفيه يلتقي الوفود، ويعلِّم الناس الحكمة وأحكام الإسلام. وهذه سنة ثابتة لا يجادل فيها أحد، فإذا كان هذا هو الذكر بمعناه الواسع والشامل والأرقى، فما حكم مَن يحول دون تأدية المسجد رسالته ودوره؟! وكما قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. لقد بيَّن المولى عز وجل أنه ليس هناك أظلم ممن عمل على تعطيل دور المسجد ومنعه من القيام برسالته ودوره، واعتبر هذا المنع تخريباً للمساجد، فالمساجد دون دورها ورسالتها أماكن خربة؛ أي غير عامرة، مهما كان حال بنيانها. إن التعبير عما يستحقه هؤلاء من العذاب بأنه خزي في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة لهو دليل على عظيم جرمها وفظاعة دورهم. الدعاة والخطباء وحول تفعيل دور المنبر وخطبة الجمعة، وكيفية الارتقاء بمستوى الخطاب الدعوي يقول د. عبد الله الحميد: إن هذا الجانب الأول والرئيس والعنصر الأساسي في تفعيل دور منابر الجمعة وإعادة الدور إلى المساجد من جديد؛ لذا علينا أن نبذل الجهود التي لا تقل أهمية عن سابقتها، فلا بد من بذل الجهود في التحري وانتقاء الخطب والدعاة المؤثرين الذين رزقهم الله الطاقات والمواهب البلاغية مع رجاحة العقول والموازنة بين الأمور والبعد عن الإثارة والبلبلة وإيغار الصدور، فهؤلاء لا شك أنهم سوف يكونون أقدر من غيرهم على تبصير الناس بأمور الدين، وتفعيل الحوار البناء، ومعالجة مشكلات الشباب وتحذيرهم من الغلو والإرهاب، وحثهم على التمسك بوسطية الإسلام وإحسان الظن بالمسلمين، والتخلق بأخلاق الإسلام وآدابه السامية في التعامل مع المخالفين. برامج دعوية مهمة ويقترح د. عبد الله بصفر مجموعة من البرامج الدعوية لتفعيل دور المساجد وتعميرها وزيادة تأثير المنابر، ويحدِّد هذه البرامج في مجموعة من النقاط: أولاً: الاهتمام من الإمام بالخطبة الأسبوعية في يوم الجمعة؛ فهي في غاية الأهمية في إيصال صوت الحق إلى الخلق، فالخطيب الذي يخطب إنما يقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أعظم هذا المنبر الذي يأتيه الناس طوعاً لا كرهاً، يأتونه حباً لا بغضاً، يأتون وهم يعلمون أنهم في ذلك يؤجرون، يبالغون في الإنصات، فلا تجد معرضاً، وليس لأحد أن يقطع الخطبة ثم يخرج من دون عذار. ثانياً: إيجاد حلقات تحفيظ قوية بالمسجد للطلاب على كافة مستوياتهم ومراحلهم. ثالثاً: استقطاب المشايخ وطلاب العلم لإلقاء الكلمات الوعظية في المسجد، وحبذا لو جُعل يوم في الأسبوع لمثل هذا النشاط، يتعارف عليه أهل الحي ليلزموه. رابعاً: تعليق لوحة إعلانات في آخر المسجد، توزَّع بطريقة مناسبة، لإعلان المحاضرات والدورات والأنشطة الدعوية المختلفة، وتعليق حامل عند باب الخروج من المسجد يكتب عليه (خذ نسختك) ويُزوَّد بالمطويات والنشرات. خامساً: وضع صندوق للأسئلة والفتاوى في مكان بارز بالمسجد، ويُرغَّب الناس في وضع أسئلتهم فيه، ثم يُحدَّد يوم في الأسبوع للإجابة عن الأسئلة من أحد المشايخ المعتبرين أو من إمام المسجد، وإعداد مسابقات ثقافية مكتوبة تُوزَّع على أهالي الحي، ويحدد زمانها وشروطها، ويعدُّ حفل لتوزيع الجوائز والحوافز على المشاركين فيها. سادساً: إيجاد مكتبة للمسجد تحفل بما يمكن جمعه من أمهات الكتب والمراجع، وبناء مغسلة موتى ملحقة بالمسجد، وإنشاء مستودع خيري مناسب تجمع فيه الصدقات العينية وما يمكن الاستفادة منه من ملبوسات وفرش وأثاث؛ لتوزيعها على أهل الحاجة. سابعاً: إنشاء موقع للمسجد عبر الشبكة العنكبوتية ويُنشر بين أهل الحي للاستفادة منه، ويقوم عليه الأخيار ومَن لديه القدرة على المشاركة الفاعلة فيه. ثامناً: الإفطار الجماعي في رمضان أو الأيام الفاضلة المستحب صيامها؛ كيوم عاشوراء أو يوم عرفة لغير الحاج، مع إعداد برنامج مرافق لهذا النشاط، وتشكيل لجنة لزيارة مَن يتخلفون عن الصلاة. تاسعاً: تكوين جماعة من أهل المسجد من أهل الرأي والحكمة والمشورة للإصلاح بين أهله حين وقوع الخصومة بينهم، وأهم مهماتها الإصلاح بين الناس ودفع غوائل الشر والخصومة والقطيعة والجفوة بينهم.
|