* موسكو - سعيد طانيوس: كشف مسؤولون روس في اليوم العالمي لحماية الأطفال الذي صادف اليوم الأول من حزيران - يونيو، عن أرقام رهيبة وواقع مأساوي للطفولة في روسيا الجديدة يختلف كليا عن تلك الحياة المرفهة التي كان يعيشها الأطفال في الاتحاد السوفييتي السابق قبل انهياره في العام 1991، لدرجة أن وزير الداخلية الروسي، رشيد نورغالييف، اعتبر ان البلاد تعيش راهنا الموجة الثالثة من تشرد الأطفال، بعد موجتي التشرد اللتين عانى منهما الأطفال الروس اثناء الحرب الاهلية في العام 1917، والحرب العالمية الثانية ما بين 1941 و1945م. وأعلن هذا الوزير امام اجتماع لكبار مسؤولي وزارة الداخلية اليوم أن أكثر من 700 الف طفل يعانون من التشرد في روسيا راهنا، أي أنهم يعيشون في الطرقات وعلى محطات القطارات وخارج أي دفء أو إشراف عائلي، كما أن هناك نحو مليوني أمّي لا يجيدون لا القراءة ولا الكتابة بين الفتيان غير البالغين، وهذا رقم هائل في بلد كان التعليم فيه إلزاميا في ظل النظام السوفييتي السابق، وعدا ذلك فإن ما يربو على الستة ملايين فتى روسي يعانون من أوضاع اجتماعية ومعيشية صعبة ومعقدة. والأدهى من كل ذلك هو إدمان نحو 4 ملايين فتى يافع في روسيا المخدرات، وارتفاع معدلات الوفاة بسبب تعاطي هذه الآفة إلى 50 ضعفا عما كانت عليه هذه المعدلات في الاتحاد السوفييتي السابق، حسبما أعلن الوزير نورغالييف. وتذكر الإحصاءات الرسمية الأخيرة أن حوالي ثلث الأطفال الروس (أكثر من 400 ألف) يولدون سنوياً من أمهات غير متزوجات ويتربى سُبعهم في أسر غير كاملة. وحرم آباء 65 ألف طفل في العام الماضي من حقوق الأبوة. وأعلنت يكاترينا لاخوفا رئيسة لجنة المرأة والأسرة والأطفال في مجلس النواب الروسي (الدوما) مؤخرا أن الأسرة الروسية في وضع يرثى له. وقالت البرلمانية إن روسيا بحاجة إلى خطة وطنية شاملة لانقاذ الأطفال، مشيرة إلى أن كل المشاكل الاقتصادية الاجتماعية التي تعاني منها البلاد منذ انهيار الاتحاد السوفييتي واعتماد اقتصاد السوق انعكست بشكل أساسي على الأطفال أكثر من الآخرين؛ لأن هؤلاء هم أضعف فئات المجتمع، حيث انخفض بشدة مستوى حالتهم البدنية والنفسية. ولفتت إلى ان أقل من ثلث الأطفال الروس فقط يولدون معافين وخالين من الأمراض، كما أن حوالي 40 بالمائة من التلاميذ يتناولون المشروبات الكحولية باستمرار. ويشكل الأحداث والشباب نسبة 70 بالمائة من أربعة ملايين من متعاطي المخدرات. ولا يمكن عمليا متابعة مصير الأطفال الروس الذين يتبناهم الأجانب؛ إذ تنتهي صلاحييات روسيا عند حدودها الدولية. وتعتبر الدولة الروسية التي تعيش فورة البترودولار أن حماية الأمومة والطفولة بين القضايا الرئيسية. ولا يرعوي الرئيس فلاديمير بوتين عن الاعلان مرارا ان (آفاق استثمار الأموال في مجال الأطفال ومستقبل تنمية البلاد لها ما يبررها وتعتبر ملائمة). لكن الإعلانات السياسية أمر، والواقع على الأرض أمر آخر؛ إذ أن وضع الأسرة الروسية قد تدهور كثيرا خلال السنوات الأخيرة، ولم ينفع في وقف تدهوره اعلان الرئيس الروسي أو الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أو البرلمان عن قلقهم بهذا الصدد. فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي وتوجه روسيا الجديدة إلى اعتماد اقتصاد السوق أخذت القيم العائلية تنهار وتتفكك، واحتلت مكانها النزعات الفردية والنجاح الفردي والرفاهية التي أخذت تترسخ بثقة في روسيا وإن كانت ببطء. وأضفت الثورة الجنسية العدوانية التي أصبح لها بشكل مفاجئ الكثير من الأنصار طابع الشرعية على اللذة والحرية الجنسية المطلقة. وأصبحت الحياة الشخصية وما هو متعارف عليه بالحب والتعلق بالآخرين (سلعة استهلاكية) تُستهلك بولع شديد ومبتذل وكأنك تشتري سلعة منزلية مع فارق تفضيل الكمية على النوعية. وأصبح الزواج والأطفال عبئا لا ينسجم أبدا وأسلوب الحياة الاستهلاكي الجديد. وفسخ في عام 2003 ثمانمائة ألف زوج وزوجة زواجهم وفي العام الماضي 636 ألفا. وهذا خير دليل على المدى المزري الذي وصلت إليه الأوضاع العائلية في روسيا الجديدة. ومن الواضح أن الأطفال هم أول ضحايا انهيار الأسرة، ويتلقون الضربة النفسية الرئيسية. وتقل بالتدريج فرص روسيا في التعويض عن الانهيار السكاني الذي تعاني منه؛ إذ يقل بشكل متزايد عدد الأسر الروسية التي تربي طفلين، وتفضل معظم الأسر الاكتفاء بطفل واحد وفقا للنموذج الأوروبي. وتبلغ نسبة المواليد في روسيا الآن نسبة للمرأة القادرة على الإنجاب 1.3 بينما كانت قبل 15 سنة 2.7 علما بأن الأمهات الروسييات يضطررن للعمل أكثر من اللازم ولا يرى البعض منهن أطفالهن تقريبا. وأصبحت روسيا بلد الجدات العاملات؛ لأن معاش التقاعد قليل ولا يكفي للحياة ولهذا لا يستطعن أيضا تربية أحفادهن بشكل تام. وبالتالي لا يحصل الطفل في الأسرة على العناية والاهتمام اللازمين. هذه هي النزعة الكئيبة للسنوات الأخيرة.. ولا غرابة في ذلك؛ فالتسابق على النجاح الشخصي يتطلب التخلص من كل ما هو (دخيل) يعرقل الاغتناء والترقي السريع في الوظيفة. ويصبح الأطفال بشكل متزايد هؤلاء (الدخلاء). فهذه هي روسيا الجديدة في عهد رجال الأوليغارشية القلائل الذين تفوق ثرواتهم ثروات نظرائهم في أعتى الدول الرأسمالية وأعرقها، بينما ترزح الأكثرية الساحقة من المواطنين تحت نير العوز والفاقة، وتعجز عن تربية وإعالة أطفالها فتتركهم يواجهون مصيرهم التراجيدي في التشرد والتعلم على تعاطي المخدرات، فتحولهم الحياة القاسية إلى قساة لا يرعوون عن ارتكاب أي فعل أو.. أي جريمة.
|