Friday 3rd June,200511936العددالجمعة 26 ,ربيع الثاني 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "مقـالات"

البطالة سبب للجريمة وليست للإرهابالبطالة سبب للجريمة وليست للإرهاب
عبد الله بن ثاني

قرأت قبل يومين تحقيقاً عن البطالة في صحيفة مرآة الجامعة العدد 376 وتاريخ 21-3- 1426هـ وقد وضعت عنواناً لذلك التحقيق: البطالة سبب للانحراف الفكري على لسان واحد ممن شاركوا في ذلك التحقيق، وكان جيداً في مجمله؛ إذ وضع النقاط على كثير من الحروف، والأجمل من ذلك أن تعالج هذه المؤسسة الأكاديمية الآثار السلبية للبطالة على يد مفكرين وأساتذة - جزاهم الله خيراً - وأعاد الموضوع كاتب في الصحيفة في العدد الذي يليه بقوله: وما هذه الأعمال الإرهابية التي تقوم بها فئة ضالة عن جادة الصواب إلا انعكاسات لتلك الظاهرة الخطيرة في المجتمع (البطالة)، ثم تحدث عن كتاب الإرهاب الأسباب والدوافع وبين أن رأي الدكتورة سلوى الخطيب في ذلك يعود إلى عدم قدرة الحكومات العربية على توفير الوظائف للأجيال الشابة، وكان الأولى ألا يقع نظر الطلاب على مثل هذه المسوغات للإرهاب حتى وإن كانت آثار البطالة قاسية على الفرد والمجتمع، وبخاصة أن سوق العمل لم يعد بحاجة إلى كثير من التخصصات النظرية ولم يبحث هذا الموضوع ولم تقدّم الحلول المناسبة لفتح مزيد من الكليات التطبيقية وبخاصة أن الميزانيات والمخصصات السنوية المرتفعة قادرة على حل أي مشكلة تواجه الأستاذ والخريج والمجتمع، ولم نسمع في بلاد العالم المختلفة الفقيرة والغنية التي تزيد فيها معدلات البطالة عن مجتمعنا اقتراف خيانات وطنية بالتفجير والإرهاب والإساءة والتكفير، فالجائع يسرق ليعيش لا ليفجر نفسه ويفجر المنشآت المدنية والعسكرية المسؤولة عن حفظ الأمن ويقتل الناس بشُبه زينها له شياطين الإنس والجن باختصار. ولا أدري إلى هذه اللحظة ما سبب الربط بين هذين الاتجاهين المتعاكسين، ولا أنفي خطورة البطالة وما تسببه من أمراض اجتماعية وأعراض مرضية، والحكم على أنها سبب للانحراف الفكري ليس صحيحاً البتة بعد أن أثبتت الأحداث الأخيرة أن هؤلاء المخالفين - هداهم الله وعطف قلوبهم على إخوانهم - يملكون أموالاً طائلة وسيارات وأدوات وأسلحة وغيرها وربما كانت مهيأة لذلك، مع العلم بأن بعض هذه الفئة لا يرى شرعية العمل في الدولة أصلاً؛ مما يدل دلالة قاطعة على أن الفكر الحركي الهجومي ينطلق من أصول ترى الصدام عقيدة والتغيير بالقوة ضرورة، وما هذه المسوغات إلا للتعمية والتخطيط وسلب الوطنية من النفوس وصولاً إلى الهدف بجمع مزيد من المغرّر بهم والأحداث ومن هم على شاكلتهم، ولم يصلنا في السيرة النبوية وسيرة السلف الصالح أن البطالة كانت مدعاة للتخريب والتفجير ومسوغاً للعبث بالأمن والسلام. لقد كان المسجد النبوي مملوءاً بأهل الصفة من الفقراء وغيرهم ممن لا يجدون طعاماً ولا مأوى وكان الصحابة يتصدقون على إخوانهم في الدين، ويشرف المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بنفسه على توزيع الصدقات، وكانوا مجتمعاً يرحم بعضه بعضاً؛ فضرب أصدق الأمثلة على التكافل والرعاية حكاماً ومحكومين، وهذا يمكن أن يستنبط من قول سيدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حينما كان مدركاً بوعي أن البطالة سبب من أسباب الجريمة ولا علاقة لها بأسباب الإرهاب من أي جهة، ففرق بين النتيجتين؛ إذ روى عنه ابن الجوزي في سيرة عمر قوله لمن استخلفه والياً على العراق وهو يودعه ويوصيه: ماذا تفعل إذا جاءك سارق؟ قال أقطع يده. قال سيدي عمر: فإن جاءني منهم جائع أو عاطل فسوف يقطع عمر يدك؛ إن الله استخلفنا على عباده لنسد جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفر لهم حرفتهم فإذا أعطيناهم هذه النعم تقضيناهم شكرها، يا هذا إن الله خلق الأيدي لتعمل فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فأشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية.
وقال ابن خلدون في مقدمته وهو رائد علم الاجتماع الاقتصادي: إن البطالة سبب للجريمة والفساد لا الإرهاب. وانظروا معي حال هذا الصحابي الذي وقف بين يدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود عن أنس - رضي الله عنه - أن رجلاً من الأنصار أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله، فقال: (أما في بيتك شيء؟ فقال: بلى حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه الماء. قال المصطفى: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: من يشتري مني هذين؟ قال رجل أنا آخذهما بدرهم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثاً. قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما الأنصاري، وقال: اشترِ بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوماً فائتني به، فأتاه به فشدّ فيه الرسول عوداً بيده الطاهرة، ثم قال: اذهب فاحتطب ولا أرينك خمسة عشر يوماً؛ ففعل فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها طعاماً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة) رواه أبو داود في سننه وقال حديث حسن.
حينما نتأمل هذه القصة النبوية ندرك أهمية العلاج النبوي للبطالة التي يتحملها في الغالب المتعطل عن العمل كسلاً، ولذلك فرض المصطفى - صلى الله عليه وسلم - على المهاجرين العمل في مزارع الأنصار فيما رواه البخاري، ولم يرض أن يقسم بينهم النخيل، فقال الأنصار: تكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة. قالوا سمعنا وأطعنا إيماناً منهم بضرورة البناء والمشاركة في التأمين الاجتماعي، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - اعترف بمشكلة الصحابي وبطالته، ولم يزجره، ولم يتخلّ عنه، ولم ينكر حقه في بثه شكواه، فأهّله نفسياً ومادياً وطلب منه إطعام أهله ليضمن نجاحه في العمل الموكل إليه وزاد على ذلك أن تابع حالته بعد خمسة عشر يوماً؛ مما يعطي الدولة مسوغاً لضرورة تدبير شؤون مواطنيها بالاعتراف بمشكلتهم ووضع الحلول والاستراتيجيات اللازمة ومتابعة التنفيذ والحرص على ذلك، كما فعل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وصحابته؛ إذ حرصوا على تحقيق الأمن الغذائي (سدّ جوعتهم)، والأمن النفسي والجسدي (ستر عورتهم)، والأمن الاقتصادي (توفر لهم حرفتهم). ومن ينعم النظر في جهود الدولة يقف على اهتمامها بعلاج هذه الكارثة الإنسانية انطلاقاً من تحقيق مبادئ النظام الأساسي للحكم في مادتيه؛ المادة (27): تكفل الدولة حق المواطن وأسرته في حالة الطوارئ والمرض والعجز والشيخوخة وتدعم نظام الضمان الاجتماعي وتشجع المؤسسات والأفراد على الإسهام في الأعمال الخيرية، والمادة (28): تيسر الدولة مجالات العمل لكل قادر عليه.. وتسن الأنظمة التي تحمي العامل وصاحب العمل.
وتحقيقاً لهاتين المادتين لا بدّ من معرفة أن البطالة تنقسم قسمين؛ بطالة اختيارية وهي التي يختارها المواطن بمحض إرادته مع توافر فرص العمل، وبطالة إجبارية وهي التي تصيب الفرد قضاءً وقدراً كالشيخوخة والمرض والعجز وتسريح العمال وعدم وجود فرص عمل للباحثين. وقد حذر الإسلام من خطر الأولى، قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه الإمام أحمد في مسنده: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرّة سويّ) والمرة: القوة على الكسب والعمل، والسوي: سليم الأعضاء، وقال سيدي عمر - رضي الله عنه - إني لأرى الرجل فيعجبني فأقول له: حرفة؟ فإن قالوا لا، سقط من عيني. وقال أيضاً: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق وهو يقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة. وقيل له عن أناس عاطلين هم المتوكلون فقال: كذبوا؛ هم المتآكلون الذين يأكلون أموال الناس بالباطل. وقال الماوردي في (الأحكام السلطانية): (وإذا تعرض للمسألة ذو جلد وقوة على العمل زجره ولي الأمر وأمره أن يتعرض للاحتراف بعمله، فإن أقام على المسألة عزره حتى يقلع عنها)، وفي هذا المقام شجع الإسلام على تعلم الحرف والمهن مقتاً للاستجداء والبطالة، فثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البزار عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلين جاءا رسول الله فسألاه، فقال: اذهبا إلى هذه الشعوب فاحتطبا فبيعاه.. ثم جاءا فباعا، فأصابا طعاماً، ثم ذهبا فاحتطبا أيضاً فجاءا فلم يزالا حتى ابتاعا ثوبين، ثم ابتاعا حمارين، فقالا: قد بارك الله لنا في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد أخرج ابن ماجه في سننه عن الزبير بن العوام - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لأن يأخذ أحدكم حبله، ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه). وهذا ما أدى إلى أن تمنح وتقرض الدولة القروض العقارية والتجارية والزراعية للمواطنين وتحث الشباب على الدخول في سلك الأعمال المهنية والكليات العملية، ولم تقتصر على التوجيه بل دعمت المشروعات الخاصة بشراء المحاصيل وتقديم الخبرات والدراسات المجانية. ولقد دلت النتائج الأخيرة على نجاح سعيها الحثيث في توظيف أكبر قدر من الشباب في القطاعات العامة وإلزام القطاعات الخاصة بنسب كبيرة في هذا المجال، وتدخلت بثقلها لحماية الموظف الصغير من مخاطر الخصخصة التي تفكر بالربحية والإنتاج بأقل تكلفة؛ مما يؤدي إلى تخفيض الأجور أو تسريح العمال بل إنها صرفت لمن لم يلتحق بوظيفة مكافأة تسدّ عوزه وتساعده على تحمل أعباء العيش، وأعرف كثيراً من الشباب التجار كانت بداياتهم من بركتها. وعالج الإسلام البطالة الإجبارية بأن فرض للعجزة والمقعدين من بيت المال ما يسدّ عوزهم، وهذا يتمثل في الضمان الاجتماعي والجمعيات الإنسانية ودور الرعاية والصدقات ومصارف الزكاة والصدقات وما زالت الدولة تقدم، وما زال المواطن يستحق كل ذلك سعياً لتحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة. كان ذلك من وضع الأمراض في سياقاتها وبيان مسبباتها؛ حتى لا تختلط فيصعب علاجها، والله من وراء القصد.

الإمارات العربية المتحدة

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved