للإنسان أن يلتقط الحكمة أنَّى وجدها.. وله أن يستمتع بالجمال من أين أحاطه.. وللعاقل أن يرى العقل في قول عاقل وإن كان مصدره رأس عدو متربص.. فلا يمكن رفض الحكمة لأنها أتت من عدو.. ولا يجوز أن يُنفر من الجمال حتى لو كان مصدره قبيحاً في شكله أو فعله أو موقعه.. ولا يعقل أن يُقصى العقل عكس اتجاه أي رأي عاقل. يقول السيد إسحاق هرتسوج عضو الكنيست الإسرائيلي في معرض حديثه عن نجاح التنمية في إيرلندا الذي نشرت ترجمته جريدة (الجزيرة) قبل أسابيع: (إن سر نجاح الاقتصاد الإيرلندي هو الشراكة التامة بين الحكومة وأصحاب الأعمال والعمال والمنظمات الاجتماعية.. أي أنهم أوجدوا شراكة اجتماعية.. فقبل عشرين عاماً حينما كان الاقتصاد الإيرلندي يمر بأزمة عميقة للغاية توصلوا إلى أن الحل هو في نمو أواصر التعاون والانسجام بين الحكومة من جهة وأصحاب الأعمال والعمال من جهة أخرى.. وبدأوا عمل اتفاقات يتم تعديلها كل ثلاثة أعوام.. حتى توصلوا الآن إلى بلورة ميثاق فيه تفاهمات واتفاقات على السياسة الحكومية في كل مجالات المجتمع والاقتصاد.. وبرعاية هذا الميثاق تشكلت محافل مشتركة على كل المستويات). ثم أضاف السيد هرتسوج: (إن المذهل هو نمو القطاع التطوعي وقطاعات النفع العام الأخرى حتى تم الاعتراف بها كشريك في التنمية.. بل وصار مندوبو هذه القطاعات يشاركون في كافة الاجتماعات المهمة في الاتفاقات الاقتصادية والاجتماعية). واليهود أحد سادة التخطيط في هذا العصر بما حقَّقوه، ولا يُذهلهم ما هو غير مُذهِل.. وحينما يُعلن اليهودي هرتسوج ذهوله من نمو القطاع التطوعي وقطاعات النفع العام في إيرلندا فإن هذا ما دفعني إلى النظر في حال قطاعات التنمية الثلاثة في بلادي (الحكومي/ الخاص/ النفع العام). إن الإطار المعرفي الذي ننظر من خلاله إلى الأمور ربما يقودنا إلى تشخيص حال علاقة أعمدة التنمية الثلاث ببعضها البعض.. فالنظرة العامة تجاه القطاع الحكومي هي أنه (قطاع بيروقراطي مركزي غير مرن ومخترَق بالتجاوزات الإدارية.. وأن موظفيه يعملون بقوانين وأنظمة عفى عليها الزمن.. وأن موظفيه كانوا هم بيروقراطيين غير مواكبين للتطور في الفكر الإداري.. وعامل الوقت عندهم غير حاسم كما هو بالنسبة للقطاع الخاص.. وأن القطاع الحكومي باختصار قطاع عائق للنمو أكثر من كونه محفِّزاً). أما الإطار المعرفي تجاه القطاع الخاص فهو (قطاع يملكه قلة من رجال الأعمال الذين لا تهمهم إلا مصالحهم الخاصة.. ويفعلون كل شيء تجاه تعظيم أرباحهم ولو على حساب الصالح العام وصالح الوطن.. وأن مساهماتهم تجاه مجتمعهم تكاد تكون منعدمة.. وأن القطاع الخاص باختصار قطاع يأخذ أكثر مما يعطي بكثير، وهو متهم ولم تثبت براءته). أخيراً الإطار المعرفي تجاه قطاع المنظمات غير الربحية هو (قطاع تهيمن عليه فئة معينة.. ذات أيدلوجية لها أهداف سياسية.. وهذه الفئات من خلال هذه المنظمات تخدم توجهاتها وأهدافها الخفية.. وباختصار فإنه قطاع هدم أكثر مما بنى.. ويغلب عليه لغة الاستجداء وتعكير صفو الأجواء). إذا كانت هذه هي الأطر المعرفية التي من خلالها ترى هذه القطاعات بعضها البعض.. وهي بالضرورة تشكِّل طبيعة العلاقة فيما بيننا.. فما هي النتيجة المنتظرة؟.. وهل العلاقة بين هذه القطاعات علاقة جفاء أم وئام؟.. وعلى ذلك ما هو شكل الصلة بين القائمين على قطاعات التنمية الثلاثة؟ أظن بل أكاد أجزم أنها علاقة جفاء وتوتر.. وكلكم يعرف ماذا يفرز الجفاء والتوتر من نتائج.. أقلها انعدام التعاون.. وهذا ما عملت الحكومة الإيرلندية للقضاء عليه وتحويله إلى علاقة وئام.. وما نتج عنها من تعاون وشراكة أذهلت اليهودي هرتسوج. لذا يجب أن نسعى إلى تغيير العلاقة بين القطاعات الثلاثة؛ حتى تتغير تلك الأطر المعرفية التي ننظر من خلالها إلى بعضنا البعض.. يجب أن تكون نظرتنا إلى القطاع الحكومي على أنه قطاع يحمي وينظم ويفعِّل ويحفِّز ويدعم النمو في جميع مجالاته.. ونظرتنا إلى القطاع الخاص على أنه يوفِّر الخدمات والمنتجات الحيوية، ويشكل رافداً رئيساً في الناتج القومي.. وأنه الأمل في استيعاب العمالة الوطنية.. والنظر إلى قطاع المنظمات غير الربحية على أنه القطاع الذي يحافظ على البيئة بكافة أشكالها.. وهي بيئة الحياة التي ينشط فيها الجميع.. يعزِّز ما هو إيجابي، ويعالج ما هو سلبي.. لتبقى بيئة حياة خصبة للعطاء والإنتاج والإبداع. فهل لنا بمبادرة إلى تحمُّل هذه المسؤولية الحيوية في أيٍّ من القطاعات الثلاثة.. وتكون المهمة إيجاد تكامل وشراكة تامة بين القطاعات الثلاثة قائمة على الوئام بدل الجفاء.. لنجني جميعاً ثمار هذه الشراكة بنمو متوازٍ ومستدام وشامل في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
|