Tuesday 24th May,200511926العددالثلاثاء 16 ,ربيع الثاني 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "مقـالات"

الفِلاحَةالفِلاحَة
أنور عبدالمجيد الجبرتي

أغنية (محمد عبدالوهاب) الشهيرة عن حلاوة عيشة الفلَّاح، عبرت ولا تزال تعبر عن الرومانسية التي تحيط بالزراعة، نشاطاً اقتصادياً ولا تزال تعبر عن الرومانسية التي تحيط بالزراعة، نشاطاً اقتصادياً وطريقة حياة، وقد تفسر بعض التناقضات التي تحيط بالسياسات الزراعية في كثير من الدول، والتذبذب في التعامل مع الفلاحين مواطنين، وعاملين، وممثلين لقطاع اقتصادي، يمثل إحدى المراحل القديمة في التاريخ الاقتصادي الحضاري للإنسانية.
* الرومانسية التي أحاطت وتحيط بالفلاح الإنسان، دفعت الثورة المصرية، في بداياتها، إلى سياسة متسرعة للإصلاح الزراعي، انحازت إلى العدالة العمياء ضد الكفاءة الإنتاجية، فصادرت الحيازات الزراعية الكبيرة ووزعتها حيازات صغيرة على الفلاحين. وكان الفلاحون المصريون البائسون، أبرز مظاهر الوضع الاجتماعي والاقتصادي للنظام السياسي القديم، لكن النظام الزراعي الجديد وزع الحيازات، دون أن تكون مدعومة بسياسيات تسويقية، وتمويلية، وإرشادية مناسبة مما أدى إلى تدهور الإنتاج الزراعي، وزيادة الواردات الزراعية.
* وبينما بررت الرومانسية الريفية تلك السياسة الزراعية القائمة على مفاهيم اجتماعية وسياسية بحتة، كان النظام الجديد يتجه نحو سياسة تصنيعية متعجبة. ويذكر أننا كنا نقرأ في كتب المطالعة والجغرافيا، المطبوعة في مصر، بأن الاستعمار كان يروج لأكذوبة كبرى، حين يحاول إقناع المصريين بأن مصر بلد زراعي فقط، ومن ثم كان ذلك الزخم السياسي والاقتصادي نحو مداخن المصانع، بدلاً من مداخن الأجْران.
* وبالطبع، اكتملت الآن الدورة، ونضجت التجربة، وبدأت مصر الحديثة منذ زمن في ترشيد سياساتها الاقتصادية، وتشجيع الاستثمارات الاقتصادية في حيازات زراعية ضخمة، في الوادي الجديد، وصحراء سيناء. والتوقعات إيجابية وكبيرة وواعدة.
* والقصة، تتكرر في دول عربية أخرى، على نحو أو آخر، في الجزائر، والسودان، وسوريا، مثلاً، ودول العالم الثالث، عندما تتعارض الرومانسية الفلاحية الناعسة، مع اندفاع قوي عاطفي نحو التصنيع على حساب القطاع الزراعي وبنتائج اقتصادية واجتماعية وخيمة.
* والفلاحون في النظرة الماركسية يحتلون موقعاً خجولاً، ويمثلون عبئاً نظرياً ثقيلاً على الانسيابات الناعمة للسرد التاريخي الماركسي، ومن هنا برز ما يسمى بالنموذج الآسيوي، كهامش صغير للسفر الماركسي الكبير.
* ولم يكذب (ستالين) الخبر، عندما تبنَّى سياسة الزراعة الجماعية، فصادر الأراضي الزراعية من طبقة الفلاحين ذوي الحيازات الزراعية المتوسطة، وهجرهم جماعياً، ونكل بهم، فانتشرت المجاعات وامتلأت منافي سيبيريا، ويقدر أن يكون الاتحاد السوفيتي قد خسر حوالي 20 مليوناً من البشر بسبب هذه السياسة الرعناء، ذات الخلفية الإيدلوجية، والرومانسية المراكسية ولا تزال روسيا حتى اليوم، تعتمد على استيراد كميات كبيرة من القمح، والمنتجات الزراعية الأخرى لإطعام الأفواه الجائعة.
* وفي العالم الأول، حيث ولدت الثورة الصناعية الكبرى، ونشأت وترعرعت، يتمتع المزارعون، والقطاع الفلاحي عموماً، برعاية وتدليل كبيرين، وتشرح الرومانسية الفلاحية، التوتر وبعض الخلافات الاقتصادية بين الدول الأوروبية، وبين أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية. وقد تأخر حسم موضوع المنتجات الزراعية في إطار المفاوضات التجارية الدولية، عن غيرها من المواضيع نظراً للحساسية السياسية والعاطفية التي تحيط بها.
* تمثل الزراعة خمسة في المئة فقط من التوظيف في السوق الأوروبية المشتركة، وأقل من اثنين في المائة من الدخل القومي الملحي. ومع ذلك فإن نصف ميزانية السوق المشتركة، يتم توجيهها نحو الإعانات الزراعية التي زادت خلال العشرين عاماً الماضية بأربعة أضعاف، ووصلت هذا العام إلى حوالي خمسة وأربعين مليون دولار.
* ويحتل المزراعون، مركزاً سياسياً قوياً، في مجموعة القوى التي تؤثر على التشريعات الاقتصادية في الولايات المتحدة الأمريكية، ونحن لا ننسى الدور الذي لعبته ولايات التبغ الأمريكية في عرقلة التشريعات الخاصة بالتدخين، رغم استعداد الكونغرس للتنكيل بشركات السجائر.
ويستطيع الاقتصاديون أن يصرخوا حتى يبح صوتهم وتزرق وجوههم احتجاجاً على السياسات الاقتصادية غير المعقولة، من حيث التوزيع الأمثل للموارد، لكن الفلاح والمزرعة، سيحظيانِ دوماً برعاية تفوق مساحتهما النسبية في النشاط الاقتصادي.
* يتدفق إلى الشانزلزيه، ومنطقة قوس النصر، بين الحين والآخر، آلاف المزراعين الفرنسيين مع أبقارهم، وخنازيرهم وآلياتهم الزراعية, احتجاجاً، وتذكيراً للفرنسيين في العاصمة، بجذورهم القديمة، ورومانسيتهم الريفية الحالمة.
* وطالما أن الناس يحلمون بعيشة الفلاح، وعذوبتها، فعليهم أن يدفعوا ثمن هذه الأحلام من جيوبهم، وخزائن حكوماتهم.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved