* استطاعت الدكتورة نوال السعداوي، بإنتاجها الأصيل المتصل بالقصة القصيرة والرواية، أن تصحح الفكرة السيئة السائدة لدى النقاد في بلادنا عن أدب المرأة. ولعل الصمت المطبق الذي قوبلت به هي الأخرى منذ أكثر من عشر سنين وأبقاها بعيدة عن دائرة الضوء يرجع إلى هذا الموقف. غير أنها ظلت في هذا الوسط غير الآبه، تخوض على أكثر من مستوى، تجربة أدبية حقيقية تعد أمل حياتها، وهي شديدة الوعي بمواطن الأزمة والتخلف والتناقض في حياتنا المعاصرة. وقد قدمت الدكتورة السعداوي في مجال القصة القصيرة ثلاث مجموعات هي: (تعلمت الحب) 1959، (حنان قليل) 1961م، (لحظة صدق) 1963، وفي الرواية: (مذكرات طبيبة) 1965، (الغائب)، 1970م. وتعكس هذه الأعمال رؤية متكاملة للواقع والوجود، رؤية طموحة، ترتفع بها العناصر الفنية إلى مرتبة رفيعة من الحرارة والجمال. وفي هذا اللقاء الصريح مع الدكتورة نوال السعداوي، نتعرف إلى معالم تجربتها الأدبية الجادة، وأفكارها وأحلامها.. تجربة الكتابة * ما هي تجربتك مع القصة؟ وما العوامل الذاتية الاجتماعية التي تدفعك إلى كتابتها؟ - ليست لي تجربة معينة مع القصة، أو عوامل محددة دفعتني إلى كتابتها، أحسست منذ وعيت الحياة, وقبل أن أعرف حروف الكلمات، إنني أريد أن أعبر عن شيء داخل نفسي، وعن أشياء كثيرة في الحياة الزوجية حولي. وعندئذ استقر القلم بين أصابعي، وأدركت معنى الحروف، بدأت أكتب وأتعلم الكتابة، تماماً كما تعلمت المشي. لا أعرف لتجربتي مع القصة نقطة بداية كدورة الدم في جسدي، لا أعرف متى بدأت، أو كيف، ولكن ولدت فإذا بها موجودة مع وجودي. هذا عن البداية، أما عن الاستمرار في الكتابة، فربما تكون هناك عوامل مساعدة، ودوافع نفسية واجتماعية، بل وجسيمة أحياناً فالكتابة في بعض الليالي شفتني من آلام جسيمة عجز الدواء عن تخفيفها، والكتابة دائماً تحفظ لي صحتي النفسية، وتجعلني في حالة توازن نفسي. أعترف أنني لست متكيفة مع العالم الذي أعيش فيه، ولا أستطيع أن أتكيف. عدم التكيف في نظر بعض الأطباء النفسانيين مرض نفسي، ولكنه في نظري صحة نفسية ترفض أمراض المجتمع. لست شاعرة ولن أكون شاعرة لأني أفضل الكلمات المنثورة، الطبيعية المرسلة، غير المنتظمة، غير الملتزمة، بأي شكل أو أي وزن إلا ذلك الذي يفرضه عليها تلقائيتها وانطلاقها من النفس. الكتب الأدبية والكتاب * ما هي تجربتك مع الكتب الأدبية والكتاب؟ - وأنا طفلة جالسة أقرأ قصة اكتشفت فجأة أن القراءة أفضل عندي من الأكل. وأصبحت أنسى الأكل من أجل القراءة، وأفضل شراء القصص على شراء الحلوى. وكبرت لذة القراءة معي، وكان كل ما يحزنني أنني لا أجد ما أقرأ. كتب أبي قديمة قرأت فيها عن أبي نواس، والجاحظ، وسيبويه، وأبو العلاء المعري، والمقريزي، والهمذاني، والطنطاوي، وعبدالحميد الكاتب وغيرهم. لم يكن مصروفي القليل ليشتري لي إلا بعض المجلات الدورية، ولم أجد أمامي إلا مكتبة المدرسة الثانوية، فاستعرت منها كتب طه حسين ولطفي السيد والحكيم والمازني، وكانت رواية جين أوستن (الكبرياء والعظمة) مقررة علينا باللغة الإنجليزية، فقرأتها عشرات المرات، وقرأت روايات شارلوت برونتيه وديكنز وسكوت وويلز وموم وشكسبير، وبدأت أحب قراءة الأدب الإنكليزي. في كلية الطب كنت أهمل كتب الطب وأقرأ دوستويفسكي والبرتومورافيا وفرجينيا وولف وناتالي ساروت وبيكيت ويونسكو وكافكا وغوته وغرييه وتولوستوي وشتاينبك وميللر وهمنغواي وأراغون وطاغور، لكن أسماءهم ليست حاضرة في ذهني هذه اللحظة. لا أستطيع أن أقول إن كاتباً معيناً كان له تأثير في أكثر من كاتب آخر، أتعامل مع الكتب والقراءة كمن يشرب من بحر واسع لا يعرف بالضبط أي قطرة أكثر عذوبة من القطرة الأخرى، ولكن كل قطرة لها طعم خاص بها، ولها مذاق خاص. حين أمسك بالقلم وأكتب تتلاشى كل القراءات السابقة من رأسي وأصبح وجهاً لوجه أمام أحاسيسي البكر وأفكاري التي تتكشف لي كالمفاجآت. الوعي بالحياة * في أي ظرف، أو تحت تأثير أي عام بدأ ونضج وعيك بالحياة؟ - نضجت على مر الأيام والسنين كما ينضج الطعام ببطء فوق نار هادئة، ولكن الذي عمق وعيي وإدراكي وأضاء في أعماقي ذلك الذي نسميه (البصيرة) هو نوع خاص من الألم، نوع حاد كالسكين يشطر القلب، وتقوى إرادتي على الحزن، وتصبح طلاسم الحياة أقل تعقيداً. خضت حياتي بجرأة، وتعددت تجاربي في الحياة والعمل والفن، وعلمتني الكتب الكثير، لكن تجاربي العملية علمتني أكثر. وجه الحياة ساخراً * ما أثر دراستك وعملك بالطب في إنتاجك الأدبي، بمعنى آخر: إلى أي مدى يتبدى في إنتاجك تأثرك النفسي والذهني بالطب؟ - أود أن أقول أولاً إنني درست الطب بعد أن تخرجت في كلية الطب. ذلك أن الطريقة التي نتعلم بها الطب والمعلومات التي نحشو بها عقولنا أثناء سنوات الدراسة لا تصنع إنساناً يفهم الطب على حقيقته، أو يفهم جسم الإنسان أو نفس الإنسان، أو البيئة التي يعيش فيها الإنسان والأمراض الكامنة فيها. كرهت كلية الطب، لكنني بعد التخرج أحببت كتب الطب، وبدأت أقرؤها وأفهمها من جديد، وقرأت كتب علم النفس والأمراض النفسية، وقرأت عن جسم الإنسان، وكيف يفكر، وكيف يحس، وكيف يمرض. ولا شك أن فهم الكاتب لجسم الإنسان ونفسه ومجتمعه هو أحد الأسس التي يرتكز عليها فنه، وليس ضرورياً دائماً أن يأتي هذا الفهم نتيجة دراسة منتظمة أو منهجية لعلوم الطب، بل قد يأتي نتيجة ذكاء الفنان الحاد، وقدرته على الملاحظة واكتشاف خبايا النفس البشرية. وكم من كتاب وأدباء فاقوا علماء النفس والطب في كشف حقيقة الإنسان. أما ممارسة مهنة الطب والاحتكاك بالمرضى ومآسيهم وآلامهم فقد انعكس أثرهما النفسي والذهني من بعض قصصي. وكم تبدى أمامي وجه الحياة سافراً بغير حجاب في بعض اللحظات الحادة التي يمر بها الطبيب، لحظة النفس الأخير لمريض يفارق الحياة، لحظة النفس الأول لطفل يولد ويستقبل الحياة، لحظة يخطئ الطبيب فيكون ثمن الخطأ روحاً بشرية، لحظة تسخر الحياة من كل علوم الطبيب، وتجعله عاجزاً أمام جبروت المرض المستعصي أو الفناء الحتمي، لحظة يصارع الإنسان ضد المرض أو ضد الموت صراعاً رهيباً قد ينتصر فيه وقد ينهزم، ولكن مشهد الصراع في حد ذاته يؤكد أن قوة الإنسان الجبارة المستمدة من إرادة الله. لا أنسى وجه مريضة في الثمانين من عمرها كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، وحينما تطلعت إليّ في نظرتها الأخيرة المدركة قالت، وهي تضغط على شفتيها بإرادة مركزة: سأعيش يا دكتورة! وفعلاً عاشت بعد هذا اليوم (الذي ظننت وظن معي أساتذة الطب أنه آخر يوم في حياتها) ثلاثة أعوام أخرى وهذه إرادة الله جلت قدرته. أريد، أريد، أريد * ما المحاور الأساسية التي يدور حولها إنتاجك؟ وما الشيء الذي تريدين أن تقوليه أو تعبري عنه؟ وما هي أفكارك إزاء الحياة؟ - لي فلسفة في الحياة كانت معالمها تتحدد عبر سني عمري. كنت أبكي حين تضرب أمي الخادمة وأثور على التفرقة بيني وبين أخي الذكر، وأرفض الزواج وأصر على التعليم، وأرفض الفساتين وأطلب الكتب، وحينما نذهب إلى القرية وتطالعني عيون الأطفال الجياع كنت أسرق الطعام من أمي وأدسه في جيوبهم. الفن والواقع * على ضوء هذا: ما هو فهمك النظري للقصة ولدورها؟ - القصة، كاللوحة، كالقصيدة، كقطعة الموسيقى، كأي عمل فني. لا أستطيع أن أقول إنني انتمي إلى مدرسة معينة في القصة، وكذلك لا أستطيع أن أقول إنني لم أتأثر بقراءاتي في الأدب والنقد، ودراستي للمدارس المختلفة في القصة. ولكن القراءات، كالطعام، تتحول داخل خلاياي إلى نسيج آخر يتسق مع جسدي وفكري. وربما أحس أن كتاباتي قد تميل أكثر إلى الواقعية النقدية، إلا أنني اعتقد أن بين الفن والواقع مسافة حتمية قد لا ترى ولكنها تحس وكذلك اعتقد أن دور الفن ليس هو النقد.
|