Tuesday 10th May,200511912العددالثلاثاء 2 ,ربيع الثاني 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "مقـالات"

ليس كل ما يُثْقَفُ يلتقط..! 2 - 2ليس كل ما يُثْقَفُ يلتقط..! 2 - 2
د.حسن بن فهد الهويمل

والتعالق مع المصطلحات الفكرية والأدبية والسياسية الخالصة، والمصطلحات التي يتنازعها أكثر من حقل معرفي يحتاج إلى معرفة تامة بظروف تشكلها، وجذورها الفلسفية والفكرية، والتحولات التي طرأت عليها عبر تحركها التاريخي والنوعي، واختلاف المفكرين في حضارة المنشأ حول الشمول والمحدودية والمفهوم، والإلمام التام بمقاصدها، ومدى توافقها أو تعارضها مع حضارة الجالب. فما كل مصطلح قابل للجلب، وما كل مصطلح مستحق للنفي. فكل حضارة ترث أو تقترض ما يناسبها من الحضارات السالفة أو المجايلة، وكل نص يعيش في ظلال نصوص حاضرة أو غابرة، وكل مفكر لا ينطلق من فراغ، إنه محصلة مقروءة، وابن بيئته الفكرية والسلوكية، وربيب حاضرة، وقد قيل: - (قل لي ماذا تقرأ أقل لك من أنت). وما شقيت الأمة إلا برجلين: رجل يقول: كان أبي. ورجل يقول: كان الغربي. وكأننا بأمس الحاجة إلى القول: خلّ كان (فالليث ليس يسيغ إلا ما افترس).
ومن تصور أنه بفكره أو بحضارته بريء، فقد وهم، وما بعث الرسول إلا ليتمم مكارم الأخلاق. والعقلاء الواعون يعرفون حواضن المصطلحات، فما من حضارة إلا هي آخذة بنواصي مصطلحاتها، وهو أخذ يدع بقية لمصطلحات أخرى، وقد يكون المصطلح ذا شقين: (أيديولوجي) لا يصلح إلا للحضارة المنتجة، و(إجرائي) صالح لكل حضارة. ولو ضربنا الأمثال ب(الديمقراطية) و(الليبرالية) لوجدناهما ينطويان على المبدئية والإجرائية، ومن ثم لا يجوز التبني المطلق، ولا النفي المطلق. ف(الديمقراطية) (أيديولوجيا) تحيل إلى الشعب لِسَنِّ أي شرعة أو منهاج، وهذا الجانب (الأيديولوجي) الذي لا يجوز القبول به، ذلك أن (الإسلام) يحيل إلى النص والعقل المؤول، و(الديمقراطية) بعد تشريع الشعب، لها آلياتها ووسائلها وأسلوبها الإجرائي ومؤسساتها (البرلمانية) و(النيابية) وطرائق الوصول إلى السلطات التشريعية والتنفيذية. وكل هذه لا أجد فيما قرأت محرماً على أحد الأخذ بشيء منها. أما (الليبرالية) فموقف وممارسة، وتلك قد لا تكون خاضعة للتفصيل، لأنها أشبه بالكل الذي لا يتجزأ، ولنا عودة مفصلة عن تذبذبها بين الفكر والإجراء. وما نراه من تعالق واستفادة لا يكون شيء منه ما يفعله دعاة التنوير الشاربون لطفح الغرب شرب الهيم.
والمتعالقون مع المصطلحات أوزاع: فالبعض يظن أنه بالإمكان التوفيق أو التلفيق بين سائر المصطلحات، دون استثناء، والبعض الآخر يرى أن ذلك ممكن مع المصطلحات المتناظرة، وهو ظن قد يردي صاحبه من حيث يدري أو لا يدري، وطائفة أخرى لم تكن على شيء من المعرفة ولا على شيء من التأصيل ممن بهرتهم المكتشفات والمنجزات، يستبقون القبول بالمصطلحات دون انضباط. وإذا قيل لهم: إن المصطلح لا يخلو من وضر الحضارة المنتجة. قالوا: إنه إجراء يأخذ حكم الوسيلة. أو قالوا: إنه بالإمكان إفراغ المحتوى وملؤه بما يناسب الحضارة المستعيرة، ولسان حالهم يقول: - (إنما نحن مصلحون) والحق أنهم مفسدون ولكن لا يشعرون. وحتى مع إمكان ذلك، فإنه ليس من الرشد قمع الذات عن المبادرات، متى كان بالإمكان سك المصطلحات العربية المستجيبة للنوازل. فما الذي يمنع أمة الإسلام بكل ما هي عليه من ثروة علمية وفقهية وفكرية وعراقة تاريخية أن تسك مصطلحاتها، وأن تنجز مفاهيمها ومقتضياتها. وإذا وجدت الفائدة في مصطلح غربي، ثم لم تكن هناك محاذير، فلا بأس من الترجمة ما أمكن ذلك أو التعريب أو النقل في أضيق نطاق، وإعطاء المصطلح مقتضيات لا تناقض الحضارة المسترفدة.
وإذ يدعي بعض المستغربين أن هناك مبادئ وإجراءات ووسائل لا يُحسن فهمها ولا التفريق فيما بينها إلا أولو الألباب، وأن المعترضين يجهلون الفروق بين المبادئ والإجراءات، وهي واضحة، كالمحجة البيضاء، فإن على المتهافتين على لعاعات الغرب والمتأبين عليه علواً واستكباراً أن يتخلصوا من المستغربين، وأن يستنوا لأنفسهم طريقاً قاصداً ينبذ إلى الآخر على سواء، ثم لا تكون مصائر الأمة على قادة الفكر غمة، واستمراء التنابز لا يدفع غوائل الفرقة، والتبصر بالأمور يحول دون التهالك الماسخ أو التمنع الحارم. ولن يكون التوفيق الحكيم إلا بالتأصيل والتأسيس لسائر المفاهيم، وتحرير المسائل، بحيث تكون ماثلة للعيان، لا يختلف في فهمها اثنان. وربط مصالح الأمة المصيرية بالمؤسسات العلمية المتخصصة، فما عادت المبادرات الشخصية مجدية، وعلى كل الأطراف أن يعززوا آرائهم بالبراهين القطعية الدلالة والثبوت. وليس من حق أحد الاكتفاء بالتسفيه والتجهيل لمن خالفهم. وما من متابع لجدل (الغربنة) و(العوربة) إلا ويدرك الفرق بين المبادئ والوسائل، والإحالة إلى عجز التفريق حجة أوهى من بيت العنكبوت، والمتمسكون بحق الكينونة السوية يؤكدون على أن المبادئ لا يجوز المساس بها، ولا الخروج عليها، أما الوسائل فإن من حق المتمسك بمبادئه أن يتخذ منها ما يراه مناسباً، لتمثل هذه المبادئ وتطبيقها. ولكن مثل هذا القول يحتاج إلى تفصيل وتحفظ وتحديد، ولا يجوز إطلاقه على عواهنه. فالوسيلة تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة. فلو ضربنا مثلاً بمصطلح (الليبرالية) الناسلة من رحم الاقتصاد، والممتدة إلى الدين والسياسة والاجتماع كما (العولمة) لوجدناه يقدس الفردية والحرية المطلقة ويتخذ العنف سبيلاً لتحقيق المراد كما (الوجودية) القائمة بكليتها على الحرية الفردية التي لا تحيل إلى ضابط نصي، فيما تقوم الحرية في الإسلام على ضوابط لا يجهلها إلا الأوباش، ومن ثم فليس هناك إمكانية للقبول بهذا المصطلح على إطلاقه، وإن عدّه البعض وسيلة لا مبدأ. والحق أن (الليبرالية) (أيديولوجية) في الأساس، وقد أحيطت بآليات تنفيذية، والرجوع إلى المعاجم والموسوعات المترجمة تؤكد ذلك. ويقال مثل ذلك عن (الديمقراطية) إذ لها جانبان: - مبدئي وهو الرد إلى الرأي العام، وإجرائي وهو تطبيق العدل والحرية والمساواة عبر مؤسسات وكيانات، وعلى ضوء ذلك يمكن الاستفادة من آليات الغرب ووسائله وإجراءاته، فهي من ظاهر الحياة الدنيا، ومن أمور دنيانا التي نحن أدرى بها.
ولسنا نشك أن الحضارة الإسلامية مرت بحالات خلط عجيب بين المبادئ والوسائل، وأن الخلافات تراكمت حول ذلك، الأمر الذي أدى إلى تخلف ذويها وابتعادهم عن كتابهم المحكم، وكلما ابتعدت الأمة أو تعرضت لتخلف وضعف وضلال تداركتها عناية الله، ولقد طمأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بأنه على رأس كل مائة سنة يبعث الله من العلماء والمصلحين من يتعقب تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ويتصدى للجدل العقيم، وينفي ركام الخلاف البيزنطي. ومع الوعد بتعاقب المصلحين فإن هناك تطميناً آخر، يتمثل بالفئة المنصورة التي نرجو أن يكون كل من يشهد أن لا إله إلا الله، ويحيل إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم منها. وإذا سلمنا بوجود المماحكين المغالين في الدين، الذين يخلطون بين المبادئ والوسائل، ويحرمون ما أحل الله، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، فإننا لن نسلم لمن يتخلون عن المبادئ بإخضاعها لوسائل لا تناسبها. فحين يقول قوم ب(الاشتراكية) أو ب(الليبرالية) أو ب(العلمانية) السياسية بوصفها وسائل وتطبيقات فإن ذلك يعني التخلي عن مبادئ إسلامية قائمة، تغني عن مبادئ الغرب والشرق. كما أن هناك وسائل وإجراءات مغايرة ومغنية أيضاً، وليس من الحكمة أن تنسلخ الأمة من فكرها السياسي، وتحل فكراً آخر مع إمكان الاستفادة المحدودة، مع الاحتفاظ بجذور الفكر السياسي الإسلامي.
ولقد غُرِّر بعدد كبير من العلماء والمفكرين والأدباء إبان الحروب الباردة، فقيل عن اشتراكية (أبي ذر)، وقال (شوقي) يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم: - (الاشتراكيون أنت زعيمهم)، وكلما اجتاحت المشاهد العربية لعبة سياسية، نهض السرعان من المتعالمين لاستقبالها، وتبنيها، وشرعنتها، حتى كادت تتحول مشاهدنا إلى أمكنة يكون العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان.
وإذا كان المفكرون قد آذوا وأوذوا في سبيل مبادئهم، فإن نقاد الأدب ومنظريه قد عانوا مثل ذلك لقد فرق شملهم، وشتت جمعهم ما جدّ من مصطلحات غربية، لم يفهمها الداعون إليها، ولم يحسنوا التعامل معها، والمشاهد الأدبية ملئت بالمترجم والمنقول والمعرب ك(البنيوية) و(التحويلية) و(التفكيكية) و(النقد الثقافي) وما درى المستغربون ما هي عليه من أفكار ومقاصد، لا تناسب القيم الحضارية للأمة العربية، وكلما خبت نارها في بلد المنشأ نفخنا رمادها التماساً لجذوة أو قبس، ثم لا يكون نصيبنا إلا الرماد الذي يعشي العيون، ويزكم الأنوف.
وأمام طوفان (الاشتراكية) يوم إقامتها، جاء من يحاول التوسط، فكتب البعض عن (التكافل الاجتماعي) وعن (العدالة في الإسلام). وعند طغيان أي مذهب ترانا نتزلف إليه، وندعي أن في ديننا ما يشابهه، وما كان أحرانا بالثبات والثقة بعقيدتنا، والاشتغال بهمومنا، والأخذ من الغير بعزة واقتدار، دون تملق أو اعتذار. وفي مجال الأدب استعيدت نظرية (النظم) الجرجانية، لتكون في مواجهة (البنيوية) والفرق بين الظاهرتين واضح. فنظرية (النظم) أسلوبية بيانية خالصة، فيما تأتي ل(البنوية) أمشاجاً بين الفلسفة واللغة ممتدة إلى النقد بعد أرذل العمر، والتهافت غير الواعي مظنة الضعف والتهالك، وتلك الممارسات رققت تلك المبادئ وطوعت الأذهان لها. وحين سقطت الشيوعية وانقض سامر (البنيوية) سقط معها ركام هائل من الكتب والدراسات والتوفيقات والتلفيقات التي نشأت في ظلها، وماتت معها، كما الأجنة في أحشاء الحيوانات الميتة. ولك أن تقول مثل ذلك عن (الوجودية)، لقد استخفت بعض أساطين الفكر الحديث أمثال (عبد الرحمن بدوي)، حيث نهض بها، وادعى أنه ابن بجدتها، وترجم لنفسه في موسوعة الفلاسفة على أنه زعيم الوجودية العربية. وحين خبت نارها، بقيت الكتب والدراسات تمثل مرحلة تاريخية، تدين الواقع العربي الذي يرقب القادم من الغرب، لينهض إليه، ويمنحه الشرعية. ولقد أحس (بدوي) باندفاعه، فراح يكتب عن القرآن والحديث والرسول، ليكفر عن ذنوبه، وإن قيل إنه بما يكتب عن الإسلام يتعرض لجائزة الملك فيصل.
والمستعرض للمشاهد السياسية والأدبية والفكرية تمر به مذاهب وتيارات استنفرت كل الجهود واستنزفت كل الطاقات، وفرقت بين الأخ وأخيه، ثم انقض سامرها، وخوت على عروشها، وأصبحت كأعجاز نخل خاوية، تحكي التفاهة والتسرع والتبعية. وكل الذين أفنوا زهرة شبابهم في ترويض الرأي العام لكل وافد، انقلبوا على أعقابهم، وأدى ذلك إلى اضطراب فكرهم، والتياث آرائهم، وفقد مصداقيتهم. لقد استقبلنا تلك المصطلحات بذات الجهد وبذات الإمكانيات، واستفدنا منها، وما سلمنا لها القياد، وحين ثوت في مشاهد الأدب، لم يضرنا ذلك شيئاً، لأننا لم نضع بيضنا في سلالها، كما فعل غيرنا.
وإذا احتملنا على مضض فلتات الألسنة من أبناء جلدتنا، وأحسسنا الظن بهم، وترقبنا أوبتهم إلى طريق الرشاد فإن من التفريط أن نحتمل فلتات من وافدين لا يدرون ما مقتضيات الكتاب وما نواقض الإيمان. وما أضر بنا إلا وافد حركي يؤز الشباب حتى يخرجهم عن مسارهم السليم، أو مقيم متفلت على الالتزام، يلتف حوله من لا يعرف حدود ما أنزل الله، فهذا وذاك، يتساوى ضررهم، لأن الحياة الفكرية قل أن تتخلص من الفعل ورد الفعل. فالمتشدد والمتفلت صنوان، وقولهما مدعاة إلى تمزيق الوحدة الفكرية للأمة. لقد تحولت مشاهدنا إلى ساحة للسمسرة، أفقدها الثبات والتأصيل، وفوت عليها فرصة التأمل وتلاقح الأفكار. فأين (الرومانسية) و(السريالية) و(الحداثة) و(البنيوية) وها نحن في أوج القول عن (العولمة) و(الليبرالية) و(حقوق المرأة) وفي المقابل القول في (الجهاد) و(البراء) و(الولاء) و(بلاد الكفر) و(الذمي) ولقد قيل عن دين (البحتري) الذي تحول من (القدرية) إلى (الاعتزال) ومنهما إلى (السلفية): - (هذا دين سوء يدول مع الدول) (أخبار البحتري) (للصولي) (ص123). ومصائبنا المصمية أننا لا نتعظ، ولا نعتبر، ولا نستفيد من الإخفاقات، ولا نلتفت إلى الوراء منذ أن عاد (الطهطاوي) خالعاً العمامة ومعتمراً القبعة، ومنذ أن تلقف الراية منه لفيف من العائدين من الغرب أو القارئين للمترجمات، والأمة مع هذه الأمواج البشرية الممسوخة في بوار، وليس فينا رجل رشيد، يستعرض اللعب والخدع، ويسائل الذات عن مقترفاتها، ويقوِّم المنجز، وكل حياتنا تهارش حول ملمات ليست في العير ولا في النفير. ومثلما يقال عن المستغربين يقال عن سائر الحركات الفكرية والدينية، فكل طائفة لا تحسن إلا تزكية نفسها، والله يقول: - {..فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}.
إن المفجوعين بتخلف الأمة العربية لم يدعوا فرصة للمراجعة والتأمل بل اهتاجوا كما المرتاع الأعزل، وما أرداهم إلا ظنهم السيئ بالإسلام، فلقد استحوذ عليهم المستشرقون بما يشيعونه من اتهامات جائرة ضد الإسلام، وما (العلمانية) و(التنوير) إلا بعض ما أسر به المبشرون والمستشرقون لمن تبعهم من المرتابين والجهلة والمتسرعين ومرضى القلوب. ومعالجة أوضاع الأمة لا تصلح بالإطلاقات والتعميمات، لابد من قانونية اللغة، وتحديد المراد، فالزمن لا يحتمل الإطلاقات، إنه زمن يملؤه دخن الفتن. وما علينا من بأس حين نوجه سؤالاً لأولئك المتحمسين ممن يعدون أنفسهم بالتنويريين وممن ينحون باللائمة على من سواهم لنقول لهم: - ما المبادرة الفكرية أو العلمية أو الأدبية أو السياسية التي قلتم بها ثم لم تكن بضاعة غربية ترد إليه؟. ثم ما الخطاب الفكري أو الأدبي أو السياسي الذي استقر في المشهد، وآتى أكله ووجد فيه العامة خلاصهم؟.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved