Thursday 5th May,200511907العددالخميس 26 ,ربيع الاول 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "الرأي"

أزمة الفكر وانتفاء الرؤية الموضوعية ( 1 )أزمة الفكر وانتفاء الرؤية الموضوعية ( 1 )
حمد عبد الرحمن المانع/ شركة اليمني للسيارات

أقسى الأزمات التي يمرُّ بها الإنسان عندما تكون مع الفكر؛ أي حينما تستقر في ذهنه. وتكمن صعوبتها وقسوتها في كونها تستمد قوتها وفقاً لقناعات تشكلت وأوغلت في الرسوخ، ويسهم في تكوينها عدة عوامل، لعل من أبرزها عامل التهيئة، بمعنى أن تمريرها وترسيخها بهذا العمق لم يكن خبط عشواء، كذلك - وهذا الأهم - أن الهدف من غرس هذه القناعات ربما لا يُقصد به مصلحة الفرد وإثراؤه معرفياً بقدر ما كان استغلالاً ووسيلة لتنفيذ هذا الهدف أو ذاك، لذلك يتم الاتِّكاء وبقوة مطَّردة على إبراز السلبيات؛ لتكون الدافع ووقود هذه القناعة، بينما أُغفل الجانب الإيجابي، أو بالأحرى أُقصي من هذه المعادلة؛ لأنه قطعاً سيشوِّش أو يُضعف - إن جاز التعبير - من التأثير، وبالتالي تتواتر الأسئلة مما يكشف جلياً أن وراء الأكمة ما وراءها، قال الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تُبدى المساويا
وهكذا تتشكل الأزمة وتتبلور؛ لتتخذ نمطاً عدائياً ساخطاً لا يرى إلاَّ السيئ؛ لأنه رهن فكره بمحض إرادته لهذه المأساة، مع أنه كان بالإمكان أن يفتح النوافذ جيداً ليرى ويستطلع ويستقرئ؛ ليكون القرار بيده لا بيد غيره. بيد أن الحالة النفسية للمأزوم فكرياً تعدُّ هي الأخرى عاملاً مساعداً في نشوء هذه التراكمات السلبية واستقرارها في الذهن؛ مما يؤدي بطبيعة الحال إلى تفاقم الأزمة وابتعادها عن الانفراج؛ لأنه لم يُتِحْ للانفراج وأساليبه مجالاً حينما أغلق النوافذ والأبواب وكل شيء عدا ما يرغب في سماعه، وما يتوافق مع الحالة الراهنة والمرتبطة بتحقيق الكمال وفق تصوُّره وتحريض مَن يحتويه بأية صفة وأية وسيلة، وهذا قطعاً مستحيل؛ لأن الكمال لله وحده إذا سلَّمنا بأن هذا هو القصد.


لكل شيء إذا ما تمَّ نقصان
فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسان

وحينما تتآكل المقومات الموجِبة للتآلف والتعايش مع المعطيات وفق معايير موضوعية فإنها حتماً ستُفضي إلى اليأس والقنوط، واعتبار النهاية هي الخلاص، وخلاصه هو - وليس كما يتصوَّر - خلاص المجتمع أو تخلصيه كما يتوهم ويعتقد؛ لأن هذا مستحيل، وكما أسلفتُ فإن الكمال لله وحده. وبالنظر بواقعية وتجرُّد فإن أي مجتمع كان، وأية أُمَّة سادتْ أو بادتْ على وجه الأرض لم تكن بمنأًى عن السلبيات وكذلك الإيجابيات. وللخروج من هذه الدائرة الضيقة ينبغي التسليم بهذه الفرضية، وينبغي كذلك أن تكون النظرة التفاؤلية هي المحكَّ وأساس التفاعل والتعامل مع المعطيات في سياق رؤية جذابة تتوق إلى تحقيق الحد الأعلى من المثالية؛ لأن تحقيقها كاملةً ضربٌ من ضروب الخيال، فكلما تحقَّق الحد الأعلى وافق ذلك الرغبة الكامنة في النفس الصادقة، بدءاً من إصلاح المرء لذاته بما يتَّسق مع ثوابته ومن التزامه بالأمانة الملقاة على عاتقه، مع الأخذ في الاعتبار الحرص البالغ على عدم إلحاق الأذى بالآخرين؛ لأن في هذا إخلالاً بالأمانة، ولأن التعويض في هذه المسائل غير وارد، وعدم الركون إلى الشبهات، والظلم ظلمات يوم القيامة.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن كل فرد يرغب في تحقيق صيغة التكامل من جميع الجوانب، بيد أن المسؤولية بهذا الصدد تراتبية، بمعنى أنه مسؤول عن بيته؛ لأنه راعٍ ومسؤول عن رعيته، وهذا في حدِّ ذاته نواة لتحقيق هذه الصيغة، بلوغاً إلى الحد الأعلى من مستوى التحقيق. وتتباين المسؤولية في هذا الخصوص، وهي الأمانة المُلقاة على عاتق المسؤول وسيُسأل عنها يوم ترجف الراجفة، فالمدرس مسؤول عن تلاميذه، والطبيب والوزير كلٌّ فيما يخصه. ولكي يكون للإنصاف موقع في هذا السياق فإن الحكم على النوايا يندرج في نطاق الظلم، ولا يعلم ما في السرائر إلا علاَّم الغيوب؛ فقد يكون في وجهة النظر ما يؤطِّر المثالية بأبعادها في سياق تصوُّر نبيل يرنو إلى تحقيقها، ولكن أنَّى لها هذا التحقيق ما دامت الوسيلة ما برحت تعصف بما تحقَّق منها، ويتحول الطالب إلى مطلوب، في مقاييس العدل والإنصاف فضلاً عن الوقوع في الظلم، ومعالجة الخطأ بخطأ أشدَّ منه فداحةً. وحينما يبلغ الحماس مبلغاً يفوق المؤشر المنطقي والواقعي إزاء أمرٍ ما فإنه سيتحول تلقائياً إلى اندفاع ليستقبل التهور هذه المؤثرات على طبق من ذهب، وتجثم المعضلة على ركام الأهداف النبيلة التي كان بالإمكان أن تُؤتي أُكُلها لو أنها اتَّخذت مساراً متعقِّلاً من رأيٍ ونُصْحٍ ومشورةٍ وتحاورٍ بنَّاءٍ ومجادلةٍ تُكرِّس النبل وفقاً لحسن المقاصد، وقبل هذا وذاك النية الصالحة السليمة. والسبيل إلى الانعتاق من أسوار الشعور بالذنب التي ما فتئت تجلد الذات وتضيق الخناق وتوحي بالتقصير يكمن في تعميق الثقة بالبارئ عز وجل القائل في محكم التنزيل:{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الإصلاح أمرٌ بالمعروف،
والسعي إلى تحقيقه أمر جميل، بيد أن الوسيلة في بلوغه من الأهمية بمكان، فإذا كنتَ ستصلح البيت، وترمِّم التشقُّقات، فإنك حتماً ستتبع هذه التشقُّقات وتصلحها، لا أن تهدمه على ساكنيه بحُجَّة الإصلاح، وهو في الواقع إفساد ودمار وهلاك. ومن هنا فإن تتبُّع محاور الخلل بغية الإصلاح بصيغة منطقية مؤثرة بالحكمة والموعظة الحسنة من صميم أخلاق المسلم، يظللها الاحترام طاعةً وخضوعاً لما يحبُّ ربُّنا ويرضى؛ لتنبرئ المودة مؤطِّرة هذا السلوك الخلاق في تناغم بديع ومؤثِّر بين صدق المعتقَد وحسن التطبيق، فإن بَلَغْتَ الأولى وخَسِرْتَ الثانية، أو العكس، (فكأنَّك يا أبو زيد ما غزيت).
يتبع

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved