إذا اعتبرنا بأن التاريخ هو الرواية التي تروى من رواة المنتصر، عندها لا شيء كالأدب يستطيع أن ينقل لنا صورة مخلصة لحقيقتها الذاتية وعوامل الجمال والخلود بداخلها، وقد سمى القائد الفرنسي الشهير (نابليون) بلاد الصين (بالمارد النائم) الذي لا يود أحد إيقاظه أو التحرش به. والحقيقة أن الصين كانت نائمة على كم هائل من البؤس والشقاء والحروب والمجاعات، التي استنزفت الملايين من أهلها وصولاً إلى العصر الحديث، ولقد أدهشني للغاية ما طرحته أديبة صينية (يونغ تشانغ) في كتابها الشهير البجعات البرية (الذي تحدثت عنه في مقالة سابقة) عن أنفاق المعاناة والرعب التي مر بها هذا الشعب في صراعه من الانتقال من آلاف السنين من الحكم الإمبراطوري ومن ثم الاحتلال الياباني انتهاءً بحكم الرئيس (ماو) الشيوعي الشهير. حيث تذكر الكاتبة بتفاصيل دقيقة نوعية الممارسات التي كان يمارسها (ماو) إبان ثورته الثقافية في الستينات من العام الماضي وتبرز كيف أن السياسي دائماً يتوسل الثقافي والفكري لتبريره وتسويغه، وأيضاً كغطاء لتمرير الكثير من المشاريع التي هدفها الحفاظ على السلطة وقمع الخصوم، فجميع تلاميذ الصين في تلك الفترة كان من الواجب عليهم أن يدرسوا أعمال ماو الأدبية والفلسفية، وأن يسمعوا كلماته، ويتبعوا تعليماته وأن يكونوا جنوداً في مجتمع ماو العظيم. وتحت شعار (دمروا أولاً والبناء سيتكفل بنفسه) أطلق ماو العنان لجميع الناس ليقتصوا من الذين أسماهم بالأعداء الطبقيين وكانت المدارس قد توقف بها التدريس لتذيع فقط خطب (ماو) وافتتاحيات صحيفة الشعب التي تحتل صوره صفحاتها الأولى، وكان هناك عمود يومي يتضمن اقتباسات من أقواله، وشعارات من نوع (الرئيس ماو هو الشمس الحمراء في قلوبنا وفكر ماوتسي تونغ هو خط حياتنا، وسنسحق كل من يعارض الرئيس ماو) وجمعت أقوال الرئيس ماو في كتيب صغير أحمر وبات على كل تلميذ في الصين أن يقتنيه بل ويحفظ مقاطع منه، وبات أي مدير مدرسة متهم بأن كانت ساعات تدريس مادة ماو.. أقل من ساعات المواد الأكاديمية الأخرى!! ومع الوقت تكون جماعة المراهقين المتعصبين لماو سموا (بالحرس الأحمر) كانت مهمتهم هو اقتحام الناس والتدخل في أبسط خصوصياتهم والتطفل على حياتهم اليومية ومعاشهم بحاجة أنهم حرس الفضيلة العظمى التي يمثلها ماو، وقد أريق كثير من الدماء في تلك المرحلة وأزهقت الكثير من الأرواح، وامتهنت الكثير من الكرامات حتى وصل الكثير منهم إلى حد الانتحار.. يظل التاريخ يبرز لنا ماذا يعني الحكم التسلطي التعسفي صاحب المنظور الوحيد والديكتاتورية التي تحرق المجتمع في أتون عبادة الفرد، الأيدلوجيات التي تتحول على أفران عظيمة تلتهم الشباب وغدهم ومستقبلهم.. التاريخ كان ومازال يرشح بالدماء.. دماء الملايين الذين حصدتهم فكرة وحيدة ومجنونة.. وروج لها أصحابها على كونها الحقيقة المطلقة والحق الأوحد.
|